العلماء: يفتقر لعناصر الأمان والثقة.. يحوّل “الميثاق الغليظ” لـ”تجارة”
تحقيق- منى الصاوي
في عالَمٍ يتسارع فيه كل شيء، أصبحت العلاقات العاطفية ليست استثناءً، فبعد أن كانت تُترك للأقدار والتطوّر الطبيعي، بدأت تظهر صيحات جديدة تفرض منطقًا مختلفًا، أبرزها الـ”deadline” أو تحديد مُهْلَة زمنية للعلاقة قبل اتّخاذ قرار الزواج، هذا التريند، الذي انتشر بقوّة على منصّات التواصل الاجتماعي، يعكس رغبة الشباب في تجنُّب العلاقات الطويلة والمُبْهَمة التي لا تقود إلى نتيجة.
وأصبح الـ”deadline” محاولة لفهم ما إذا كانت العاطفة هي الحلّ العملي لمشاكل العلاقات الحديثة، أم مجرّد وهم يهدّد بتبسيط وتسطيح أعمق المشاعر الإنسانية.
يرى أحمد حسن- 26 عامًا، مهندس- أن “الديدلاين” بالنسبة للكثير من الشباب يُعتبر وسيلة لضبط العلاقة وتوجيهها نحو هدف واضح، لافتًا إلى أن العلاقة التي لا يتم تحديد نهايتها غالبًا ما تتحوّل إلى علاقة مريحة بلا هدف، وقد تضيع سنوات من عُمري دون أن أصل إلى قرار.
ويؤكد أن وضع مُهلة مثل سنَة أو سنتين يفرض علي وعلى شريكتي أن نكون جادّين، وأن نعمل بجد على فهم بعضنا البعض، لنعرف في النهاية هل نحن مناسبان للزواج أم لا؟
قتل للعفوية
بينما ترى سارة رسمي- 30 عامًا، خبيرة التسويق الإلكتروني- أن المُهلة قد تقتل عفوية العلاقة وتجعلها تحت ضغط دائم، قائلة: “أنا ضد فكرة ‘الديدلاين’ تمامًا، الحب ليس مشروعًا هندسيًا له موعد تسليم نهائي، الضغط النفسي الذي يسبّبه هذا الموعد قد يدفعنا لاتخاذ قرارات خاطئة أو لإخفاء عيوبنا لكي ننجح في المُهلة المحدَّدة، وهو ما يتنافى مع أساس بناء علاقة صحّية وصادقة، فالعلاقة يجب أن تأخذ وقتها الكافي لتنضج بشكل طبيعي”.
بينما تجد العديد من الفتيات في فكرة “الديدلاين” حماية لهن من إهدار وقتهن ومشاعرهن في علاقات غير جادة، فتقول مريم- 27 عامًا، مصمّمة جرافيك-: “هناك الكثير من العلاقات التي تستمر لسنوات طويلة دون أن يتقدّم فيها الشاب خطوة، فأصبح ‘الديدلاين’ يمنحنا شعورًا بالأمان، لأنه يضع إطارًا زمنيًا يوضّح جدّيّة الشريك، إذا لم يكن مستعدًّا للالتزام خلال فترة محدّدة، فمن الأفضل أن تتحرّك الفتاة إلى الأمام بدلًا من الانتظار في علاقة بلا مستقبل”.
من جهتها، تقول د. سارة عثمان- أستاذة علم الاجتماع بجامعة سوهاج-: ظاهرة ‘الديدلاين’ هي انعكاس طبيعي لتغيّرات عميقة في بنية المجتمع، إذ لم تعد العلاقات العاطفية تُبنى على القيم التقليدية فقط، بل أصبحت تتأثّر بالمنطق الرأسمالي الذي يركّز على الكفاءة والوقت والنتائج، فالشباب أصبحوا يتعاملون مع العلاقات كمشروع له أهداف محدّدة وميزانية زمنية.
وتشير إلى أن هذه الظاهرة تعبِّر عن أزمة ثقة في العلاقات، ففي ظلّ زيادة معدّلات الطلاق وتعدّد الخيارات، يشعر الأفراد أن العلاقات العاطفية قد تكون مضيعة للوقت إذا لم تؤد إلى الزواج، وهو ما يدفعهم للبحث عن حلول منطقية لتقليل المخاطر، فأصبحت المُهلة الزمنية هي وسيلة للتحكّم في هذه المخاطر وتقليل الخسائر العاطفية والزمنية.
وتؤكّد أنه في الوقت نفسه، قد تؤدّي هذه الظاهرة إلى تسطيح قيمة الزواج نفسه، فعندما يصبح الزواج هو “الهدف النهائي” الذي يجب تحقيقه في إطار زمني، قد يتجاهل الأفراد أهمية بناء علاقة عميقة قائمة على التفاهم الحقيقي والصبر والتعايش مع العيوب، وهو ما قد يؤدّي إلى زواج هشّ لا يصمد أمام أولى الصعوبات.
وتضيف: هذه الظاهرة قد تزيد من الضغوط الاجتماعية على الشباب، خاصة الفتيات، فمع تحديد مُهلة زمنية، يرتفع منسوب القلَق الاجتماعي حول سنّ الزواج وتأخّر الزواج، مما قد يدفع الأفراد إلى الدخول في علاقات غير مناسبة فقط للهروب من هذا الضغط، بدلًا من البحث عن الشريك المناسب.
مشاعر زائفة
فيما ترى د. أسماء سعيد- أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس- أن فكرة “الديدلاين” تنبع من رغبة في السيطرة على المجهول، فالعلاقات العاطفية بطبيعتها تحمل قدرًا كبيرًا من عدم اليقين، والبعض يلجأ إلى تحديد مُهلة زمنية كآلية دفاع نفسية للشعور بالتحكّم في مصير العلاقة، هذا يعطي شعورًا زائفًا بالأمان، ولكنه قد يخفي وراءه خوفًا من الالتزام أو من الفشل.
وتؤكّد أن الجانب السلبي لهذه الظاهرة هو أنها تخلق ضغطًا نفسيًا هائلًا يُعرف باسم ضغط الأداء، فالعلاقة تتحوّل من تجربة للنمو والتعرّف على الذات والآخر، إلى اختبار يجب اجتيازه، هذا الضغط قد يؤدّي إلى سلوكيات غير صحّية مثل إخفاء المشاعر الحقيقية، والتركيز على إظهار الجوانب الإيجابية فقط، مما يمنع الطرفين من التعرّف على شخصياتهما الحقيقية بصدق وعمق.
وتقول: بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تسبّب المُهلة الزمنية شعورًا بالاستعجال الذي يؤثّر على القُدرة على اتّخاذ قرارات حكيمة، فالعقل البشري تحت الضغط يميل إلى اتخاذ القرارات السريعة بدلًا من القرارات المدروسة، وهذا قد يؤدّي إلى اختيار شريك غير مناسب لمجرّد أن المُهلة قد انتهت، مما يفتح الباب لمشاكل أكبر في المستقبل.
وتوضّح أن تحديد مُهلة زمنية قد يقوِّض بناء الثقة العاطفية بين الطرفين، فالثقة تتطلّب وقتًا لتنمو من خلال التجارب المشتركة في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وليس من خلال سباق ضد الزمن، والعلاقة التي تُبنى على أساس زمني قد تفتقر إلى العُمق المطلوب للصمود أمام تحدّيات الحياة الزوجية.
ويؤكد د. خالد الجهوري- أستاذ الفقه بجامعة الأزهر- أن العلاقة بين الشاب والفتاة قبل الزواج يجب أن تكون ضمن إطار شرعي ومحترم، أما فكرة تحديد “ديدلاين” فهذا أمر لا يتعارض مع الشريعة إذا كان الهدف منه هو إتمام الزواج في أقرب وقت ممكن بعد التأكّد من صلاحية الطرفين، ولكن دون أن يكون ذلك على حساب الأسس الدينية والأخلاقية.
ويشير “د. الجهوري” إلى أن الإسلام يؤكّد على أهمية الاستخارة والاستشارة قبل الزواج، فالاستخارة هي طلب من الله أن يختار لنا الخير، والاستشارة هي أخذ رأي أهل الخبرة والصلاح، ووضع مُهلة زمنية قد يجعل الأفراد يتغاضون عن أهمية هذه الخطوات، لأنهم يكونون تحت ضغط الوقت لإتمام الزواج، وهو ما قد يؤدّي إلى قرارات غير موفَّقة.
ويشير إلى أن العلاقة التي تسبق الزواج يجب أن تكون قائمة على الوضوح والنّيّة الصادقة، فإذا كان الشاب يتقدّم للفتاة بنيّة الزواج الجادّة، فلا حرج في أن يحدّد الطرفان فترة للتعرّف على بعضهما البعض بما لا يخرج عن حدود الشرع، ولكن هذه الفترة يجب أن تكون قائمة على الصدق لا على المناورة أو إخفاء الحقائق خوفًا من انتهاء المُهلة، كما قال الله تعالى في سورة النساء “وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا”.
وأكّد أن الزواج في الإسلام ليس مجرد عقد اجتماعي، بل هو ميثاق غليظ قائم على المودّة والرحمة، هذه المودّة والرحمة لا يمكن بناؤها في إطار زمني محدّد أو ضيّق. العلاقة التي تُبنى على “ديدلاين” قد تفتقر إلى هذا العُمق الروحي، لأنها تركّز على الهدف وهو الزواج، وتتجاهل الرحلة وهي بناء العلاقة الحقيقية القائمة على التفاهم والقبول المتبادل، مستدّلاً بقول الله عزَّ وجلَّ: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.