كثيرة هي الدروس المستفادة من العدوان الإسرائيلي على قطر، لكن أهم هذه الدروس على الإطلاق هو دحْض أسطورة التحالف مع أمريكا، وإسقاط خرافة الدفاع المشترك معها، فأمريكا ليس لها في منطقتنا غير حليف واحد هو إسرائيل، ورغم قواعدها العسكرية الكثيرة على الأرض العربية إلا أن أسلحتها لم ولن تنطلق إلا في مواجهة أعداء إسرائيل، وفي إطار استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وحين تأتي لحظة الاختيار بين إسرائيل وأي حليف آخر فلن تتردّد عن نُصرة إسرائيل ضد كل الحلفاء.
أمريكا تستطيع أن تعطي الجميع كلاما معسولا عن ضمانات الحماية والأمن، وتستطيع أن توّقع اتفاقات ومعاهدات على ذلك، لكنها لن تقول لأحد إن مفعول هذه الاتفاقات والمعاهدات يقف عند عتبة المصالح الإسرائيلية، عليك أنت أن تفهم الحقيقة بنفسك، وإن لم تفهم فالعيب عيبك، ولا تلومنَّ إلا نفسك، والدرس القطري ماثل لمن لديه الرغبة والقُدرة على استخلاص الدروس.
ولما كان المسئولون السابقون ـ عادة ـ هم الأقدر على كشف الحقائق دون مراوغات دبلوماسية، فإن رئيس وزراء قطر السابق الشيخ حمد بن جاسم كان واضحا حين قال: “نحن لم نكن حلفاء لأمريكا وإنما كنّا مقاولين من الباطن، نسمع وننفّذ ما يريده الأمريكيون”، أما الضابط الأمريكي السابق “سكوت ريتر” فكان أكثر وضوحا وتفصيلا وهو يعترف: “قطر ليست حليفا، لأن أمريكا ليس لها حلفاء، ولا تقبل من الدول غير الخضوع، هذه هي الحقيقة التي تحكم العلاقة بين الشرق الأوسط وأمريكا، كل من يُطلق عليهم حلفاؤنا ليسوا حلفاء، لأننا سنخونهم وخنَّاهم بالفعل، لكنهم لا يستطيعون الفكاك من هذا الواقع، هم منغمسون بعمق في المنظومة الأمريكية ماليا وأمنيا، نحن لسنا أصدقاء لأحد، وعندما تتعامل مع الولايات المتحدة فسوف تعتبرك مجرد أداة، هذه هي الرسالة التي يجب أن يستخلصها العالم”.
ويجزم هذا الضابط أن الدفاعات الأمريكية في الخليج رصدت الطائرات الإسرائيلية الـ 15 المتوجّهة إلى قطر لتضرب موقع اجتماع قادة حماس، ولو أرادت أمريكا منعها لمنعتها، لكنها تغاضت وتركتها تمر إلى أهدافها، وهو ما يعني أنها حصلت يقينا على ضوء أخضر من الرئيس ترامب لتنفيذ هجومها، حتى وإن أنكر ترامب ذلك بعد فشل العملية.
من حقّ قطر أن تغضب وتشعر بالخيانة ممن ائتمنتهم على أمنها واستقرارها، ودفعت لأجل ذلك الكثير من ثرواتها، وهي ليست في حرب مع إسرائيل، بل تقوم بالوساطة بين حماس وإسرائيل لإنجاز صفقة صاغتها الإدارة الأمريكية، وتستضيف قادة حماس بموافقة أمريكية إسرائيلية، ثم إنها أول دولة خليجية تفتح مكتبا رسميا للتواصل مع إسرائيل، وعلى أرضها أكبر قاعدة عسكرية لأمريكا في الخارج، وقناتها الشهيرة (الجزيرة) تأتي بالمتحدّثين الإسرائيليين على شاشتها بدعوى عرض الرأي الآخر، وهي الوسيط الموثوق به أمريكيا حين يكون الدور الدبلوماسي هو الحلّ لمشاكل أمريكا الكبرى.
لكن ذلك كلّه لم يشفع لها لدى الإدارة الأمريكية كي تمنع عدوان إسرائيل عليها، مما تسبّب لها في إحراج دولي، وكشف عدم قُدرتها على تأمين طرفيّ المفاوضات على أرضها، لكن إسرائيل بفضل الحماية الأمريكية تتجاوز كل الأعراف والقوانين، وتعمل على فرض هيمنتها وإرادتها، وقد تبجّح نتنياهو بعد فشل العدوان متوعّدا بأنه سوف يستمر في اغتيال قادة الإرهاب (المقاومة) في قطر، وفي أية دولة أخرى توفّر لهم ملاذًا آمنا.
ومن حقّ الدول العربية والإسلامية، بل من واجبها جميعا أن تغضب، وأن تفكّر ألف مرّة فيما حدث وفيما يمكن أن يحدث، خصوصا بعد أن وصلت كُرَة النار إلى الخليج الذي كان يظنّ أنه في مأْمن، وبعد استخدام أمريكا للفيتو في مجلس الأمن لمنع إدانة العدوان الإسرائيلي على قطر، ورفضها الاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
والرّدّ العملي على ذلك في قمّة الدوحة الطارئة لا يكون بمزيد من التودّد لأمريكا، ولا بعبارات الشجْب والاستنكار، وإنما بتحالف عربي إسلامي حقيقي للدفاع المشترك يقوم على قاعدة التكامل الاقتصادي وتصنيع السلاح، وليس مطلوبا من هذا التحالف أن يحارب غدا، ولكن يكفي أن يقرّر تعليق العمل باتفاقات التطبيع، وإغلاق المجالات الجوية في وجه الطائرات الإسرائيلية، والتهديد بقطع العلاقات إذا لم توقف إسرائيل حرب الإبادة على غزّة.
ساعتها فقط سيُدرك ترامب ونتنياهو أن الأمر جدّ لا هزْل فيه.