في زاوية من زوايا المدينة، حيث الحياة تنبض رغم الفقر والضيق، وقعت جريمة. ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، لكنها- كما كل جريمة- تحمل في طيّاتها مرآةً عاكسة لوجوهنا نحن، للمجتمع، ولما بقي فينا من إنسانية.
شابٌ غاضب، مشادة تافهة، بضع دقائق من التوتّر، ثم رصاصة تخترق صدر رجل لم يكن يتوقّع أن يموت في مكان رزقه. هكذا ببساطة، يتحوّل نزاع عابر إلى مأساة، وتُزَهق روح، ويُخلّف وراءها أُمًّا ثكْلَى، وأبناءً يتامَى، وشارعًا يفقد جزءًا من أمانه.
لكن هل نكتفي بوصف الحادثة؟ هل يكفي أن نقول “قُتل رجل بسلاح ناري”؟ أم أن علينا أن نغوص أعمق، أن نسأل الأسئلة المُقْلِقَة التي يهرب منها ضميرنا الجمعي؟
ليست الطَلْقة في حدّ ذاتها هي الكارثة، بل ما سبقها من تحوّلات بطيئة وخطيرة في بنية المجتمع. ما الذي يجعل الغضب وسيلة حياة؟ لماذا صِرنا نحمل السلاح بدلاً من الحِكمة؟ ما الذي يجعل شابًّا لا يرى في الخلاف إلا ساحة معركة؟
ما نراه في مشاهد العنف اليومية ليس إلا نتيجة لتراكمات من الإهمال: إهمال في التربية، في الوعي، في العدالة الاجتماعية، وإهمال أكبر في بناء الضمير الأخلاقي.
القرآن الكريم يقول: “ومن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه ولعنه” (النساء: 93. ليست هذه مجرد آية وعيد، بل بيان لحُرمة الدم، لخطورة التعدّي على حياة الآخر، لأي سبب كان.
الجريمة لا تهدّد حياة الضحية فقط، بل تُضعف شيئًا في المجتمع بأسره. مع كل رصاصة نسمعها دون احتجاج، نتنازل عن جزء من إنسانيتنا. حين نمُرُّ على خبر القتل مرور الكرام، ولا يرِفُّ لنا جفْن، فإننا بذلك نُساهم، بصمتنا، في خلْق بيئة تسمح بتكرار المأساة.
إننا نعيش اليوم في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات، لكن القلوب باتت أقل إصغاء. نستهلك الأخبار كما نستهلك السلع، ونمُرُّ على المآسي وكأنها فصول مكرَّرة في مسرحية مُمِلَّة. لكن الدم لا ينبغي أن يصبح خبرًا عاديًا، ولا الألم رقمًا عابرًا، فكل روح تُزهق تنقص من إنسانيتنا جميعًا.
إن الضمير الجمعي لا يموت دفعة واحدة، بل يتآكل رويدًا رويدًا، حتى تصبح الدماء مشهدًا مألوفًا، والأرواح أرقامًا في نشرات الأخبار.
الدين ليس فقط طقوسًا وشعائر، بل هو في جوهره تهذيب للنفس، وتأسيس لسلام داخلي ينعكس على تعاملنا مع الآخرين. قال رسول الله ﷺ: “المسلم من سَلِمَ الناس من لسانه ويده” فهل سلِم الناس منّا؟
أما الأخلاق، فهي الحصن الأخير حين تنهار القوانين أو تتأخّر. الأخلاق هي ما يمنع الإنسان من إيذاء أخيه حتى لو كان قادرًا، ما يجعله يختار الحوار بدل الطعن، والصفح بدل الانتقام.
لا نحتاج فقط إلى محاكم تُصدر الأحكام، بل إلى مجتمع يعيد تعريف نفسه. نحتاج إلى مدارس تُربِّي لا تُلقّن، إلى إعلام يُنير لا يُلهي، إلى بيوت تُؤسِّس على المودّة لا على الصراخ، إلى قلوب تعرف كيف تسامح قبل أن تتعلّم كيف تُدافع.
الجريمة تبدأ حين نستهين بالكلمة، حين نسمح للغضب أن يكون سيّد اللحظة. والعدالة، إن كانت متأخّرة، فلابد أن تسبقها ثقافة وقائية تحترم الحياة، وتزرع في النفوس أن الإنسان أثمن من كل نزاع.
في النهاية، ليست هذه القصّة فقط قصّة مَن سقط برصاصة، بل قصّتنا جميعًا. إن لم ننتبه الآن، فقد نكون جزءًا من جريمة الغد، بصمتنا، أو بغياب ضمائرنا، أو بتهاوننا في تربية جيلٍ يعرف معنى السلام أكثر من الثأر.