حصل على ماجستير “القانون العام” بجامعة الإسكندرية
كرمته محافظ البحيرة.. ترقى لمشرف إداري ويطمح بالمزيد
رصد الرحلة: محمد لملوم
في أحد أزقة قرية الخضرة التابعة لمدينة كفر الدوار بمحافظة البحيرة، يقع زقاق متواضع لا يتجاوز عرضه مترًا ونصف المتر، يبعد بضع خطوات عن الطريق الرئيسي لمحور المحمودية.
ذلك المنزل البسيط، الذي قد يبدو عابرًا للناظر من الخارج، يخبئ وراء جدرانه قصة كفاح استثنائية تفيض بالإرادة والإصرار، بطلها محمد عثمان سلام، الذي عرفه أبناء منطقته بلقب “عامل النظافة الحاصل على الماجستير”.

بداية متواضعة
منذ عام 1999، ارتدى محمد الزي الخاص بعمال النظافة في مجلس مدينة كفر الدوار. بدأ مشوارًا قاسيًا مع العمل الشاق امتد لما يزيد عن سبعة وعشرين عامًا. كان يجوب الشوارع في الصباح الباكر، يدفع عربات القمامة ويواجه صعوبة الطقس القاسي صيفًا وشتاءً. لكن ما اعتبره كثيرون نهاية لطموح أي شاب، كان بالنسبة له مجرد بداية.
يقول محمد وهو يستعيد تلك السنوات: “عملت في كل شيء تقريبًا، من تنظيف الشوارع إلى مساعدة الإدارات في مشروعات بسيطة. لم أعتبر أي وظيفة عيبًا. بالعكس، تعلمت من كل مهمة الصبر والانضباط وفن التعامل مع الناس. كانت تلك الدروس هي ما صنع شخصيتي اليوم”.
ورغم نظرات المجتمع القاسية وتعليقات البعض الجارحة، رفض الاستسلام. حول التنمر الذي تعرض له إلى وقود يشعل إرادته، مؤكدًا أن احترام العمل هو أول خطوة نحو النجاح.
شرارة التغيير
في عام 2011، وبينما كان راتبه لا يتجاوز 204 جنيهات شهريًا، حدثت اللحظة الفارقة. يحكي محمد: “كنت أعمل في الشارع وحلمت أن أغيّر وضعي. في أحد الأيام أردت استشارة محامٍ شاب في مسألة قانونية، فقال لي مازحًا: يا أستاذ محمد تعال مكتبي نتكلم. رغم بساطة الموقف، شعرت أنها رسالة لي. قررت أن أثبت لنفسي وللناس أن عامل النظافة قادر على الوصول لأعلى الدرجات”.
التحق محمد بنظام التعليم المفتوح في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، معتمدًا على حصوله على دبلوم تجارة. وبإصرار لافت، ادخر كل قرش لدفع المصروفات، وخصّص ساعات طويلة للدراسة بعد يوم عمل مضنٍ، غير آبه بما يحيط به من صعوبات.
طريق طويل
سنوات الدراسة لم تكن سهلة، فإلى جانب عمله اليومي ومسئوليات أسرته، كان عليه أن يسافر من قريته إلى مقر الجامعة في الإسكندرية بشكل متواصل. ورغم ذلك، نجح في اجتياز الامتحانات عامًا بعد عام، حتى حصل عام 2016 على ليسانس الحقوق، ليصبح حديث أهالي قريته الذين تابعوا مسيرته بإعجاب.
التحدي الأكبر
لكن محمد لم يتوقف عند حدود الشهادة الجامعية. فقرر استكمال دراسته العليا في القانون العام، متحديًا كل المعوقات. يوضح قائلاً: “الماجستير لم يكن مجرد طموح أكاديمي، بل كان رسالة لنفسي ولكل من يظن أن ظروفه تعوقه. كنت أريد أن أثبت أن الإرادة أقوى من أي عائق”.
وبعد سنوات من المذاكرة والسهر والتوفيق بين العمل والدراسة، حصل عام 2025 على درجة الماجستير من جامعة الإسكندرية بتقدير جيد، ليصبح نموذجًا حيًا على أن الطموح لا يعرف المستحيل.

تكريم رسمي
لم يمر إنجاز محمد دون تقدير، فقد كرّمته محافظ البحيرة ومنحه شهادة شكر لما حققه من إنجاز، كما تمت ترقيته من عامل نظافة إلى مشرف إداري داخل مجلس المدينة، في اعتراف رسمي بمثابرته وجهوده.
ومع ذلك، لا يزال سقف أحلامه مرتفعًا. يقول: “أحلم بالحصول على عضوية نقابة المحامين. لكن القوانين تشترط الحصول على شهادة الثانوية العامة قبل الجامعة، وأنا أحمل دبلوم تجارة. أتمنى من نقيب المحامين منحي استثناءً يتيح لي الانضمام”.
طموح برلماني
مسيرة محمد لم تقتصر على العمل والدراسة فقط، بل امتدت إلى المشاركة في الشأن العام. ففي الفترة من 2008 إلى 2011، شغل عضوية المجلس المحلي بقرية القمرة، وترأس لجنة البيئة، حيث كان يتابع شئون المواطنين ويسعى لحل مشكلاتهم.
يقول: “الناس في القرية يعرفونني جيدًا من خلال عملي وخدمتي لهم. كثيرون يطالبونني اليوم بالترشح لمجلس النواب حتى أتمكن من تمثيلهم ومتابعة قضاياهم عن قرب”.
جذور العزيمة
يستحضر محمد تأثير والده الراحل، موظف شركة الكيماويات، الذي زرع فيه قيمة العمل الشريف. “أبي علمني أن النجاح لا يأتي إلا بالصبر والاجتهاد. كان دائمًا يردد: اشتغل بالحلال وابذل مجهودك، والنجاح هيجي لك. وفاته تركت فراغًا كبيرًا، لكنها منحتني دفعة لأكمل طريقه”.
أما والدته الحاجة شادية، فكانت السند الحقيقي في رحلة كفاحه. تقول بفخر: “أبني تعرض لتعليقات جارحة كثيرة من الناس، لكني كنت أردد دائمًا: من يعمل بالحلال لا يعيبه أحد. واليوم فرحتي به هي الرد الأقوى على كل من حاول التقليل من شأنه”.
وتضيف عن دعمها المستمر: “كنت دايمًا أحلم أشوف ابني ينجح ويحقق حاجة كويسة. ربنا حقق حلمي. دعائي له مستمر، وأحرص على دعمه نفسيًا وماديًا. كنت أعطيه مصروفا يوميا وهو ذاهب إلى الكلية أو الشغل، وأتابع إن كل حاجة ماشية صح. محمد حنون ومجتهد، دايمًا عايش هموم الناس معاه، ويراعي أسرته وأولاده بكل تفاني.”

أسرة تساند وتفخر
محمد متزوج منذ عام 1998 ولديه أربعة أبناء: محمود خريج كلية الزراعة ويعمل حارسًا في شركة أمن، وشادية حاصلة على دبلوم صنايع ومتزوجة وتعمل في الخياطة، وإيمان تحمل دبلوم فني خدمات طبية ومخطوبة، ورحمة أصغرهم، ما زالت في التعليم الفني وتحمل طموحات كبيرة.
يقول محمد “لم أشعر أبنائي أبدًا أن عملي عيب. بل أخبرتهم أن كل مهنة شريفة مصدر فخر، وأن الاجتهاد والنية الصافية هما ما يحدد مستقبل الإنسان”.
ويروي محمود: “أبي علمني قيمة العمل مهما كان شكله. كان يذاكر بعد يوم عمل شاق ويساعد الجميع. أصدقائي كانوا يسخرون من مهنته ويقولون: (أبوك زبّال)، لكني كنت أرد: (أبي أشرف من العاطل). اليوم أفخر بأنه صاحب ماجستير”.
رحمة، الابنة الصغرى، تضيف: “أبي علمني أن الإرادة تغير كل شيء. عندما استلم شهادة الماجستير شعرت أن كل كلمات السخرية التي سمعتها من زميلاتي تحولت إلى فخر كبير”.
دعم الأقارب
كان لخاله أحمد عبدالسلام دور مهم في رحلته، إذ يعلق قائلاً: “كنت دائمًا إلى جانبه بالنصح والتشجيع. شاهدت عن قرب كيف يتحدى الصعاب. محمد مثال حي للإرادة التي لا تعرف المستحيل”.
القيم الإنسانية
يعاود محمد حديثه ليؤكد فلسفته في الحياة ويقول: النجاح ليس منصباً أو مالاً، ولكن أن تخدم الناس وتساعدهم، وتعمل في كل شيء، ولا تشعر بالخجل من أي مهمة، مهما كانت بسيطة.
يضيف: “العمل بضمير يكسبنا تقدير الناس مهما كانت البداية بسيطة، ومهما كانت الصعوبات كبيرة، احترم شغلك، تعلم، واجتهد، ولا تستسلم لمن يقلل من قيمتك. كل واحد يقدر يحقق ذاته لو حط قلبه وعقله في الطريق الصح.”
ويختتم حديثه موجهًا رسالة للشباب والمجتمع فيقول: “لا تخافوا من البداية المتواضعة، ولا تقللوا من أي فرصة تعليمية، واعتبروا كل تحد فرصة لتثبتوا لأنفسكم ولغيركم أن الاجتهاد والصبر يغيروا حياتكم للأفضل. ومن يعمل بإخلاص مهما كانت ظروفه، هو الذي يبني مجتمعه ويصل للنجاح الحقيقي.”
































