عندما يتعلّق الأمر بفلسطين والحرب على غزّة يتحوّل المسئولون الأمريكيون والإسرائيليون إلى دِين آبائهم وأجدادهم، ليظهَروا على حقيقتهم كرجال عصابات لا كرجال دولة ورؤساء حكومات، وليتأكّد للقاصي والداني أن أمريكا هي إسرائيل، وإسرائيل هي أمريكا، وأن تشابُك المصالح بينهما بلغ حدّ الاندماج الكامل، وما لم تجرؤ إسرائيل أن تقوله أو تفعله تتطوّع أمريكا لتقوله وتفعله دون أدنى حرج.
لذلك فإن مشكلتنا الحقيقية مع أمريكا بأكثر ما تكون مع إسرائيل، إسرائيل هي العدو الظاهر، هي دولة الاحتلال والاستيطان والتوسّع، وكراهيتها تسْرِي في عروقنا، لكن أمريكا مازالت تشكّل لغزًا ملتبسًا، فهي الحليف والكفيل والمموِّل والداعم الأول لإسرائيل، وبدونها تصبح إسرائيل عارية مكشوفة، ثم هي في الوقت ذاته الحليف الاستراتيجي والشريك الدفاعي والاقتصادي لمعظم الدول العربية، وهناك من لا يزال يراها راعية السلام، ويتوسّل إليها لوقف الحرب على غزّة، حتى بعد أن استخدمت الفيتو في مجلس الأمن 6 مرات للحيلولة دون وقف العدوان.
هذا الوجود الأمريكي المتناقض بين إسرائيل والعرب يحمل خطرا كبيرا لأمّتنا، لأنه يعني أن دوائر الأمن القومي العربي تتداخل كثيرا مع دوائر الأمن القومي الإسرائيلي عبر الحليف الأمريكي، الذي يقوم بدور الجسر المزدوج بين الطرفين، لضمان دمج إسرائيل في الشرق الأوسط، وفرض هيمنتها على دول المنطقة بتفوّقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، وقد لعبت أجهزة الاستخبارات الأمريكية طويلا على هذا المحور حتى نجحت في تحقيق التطابُق بين استراتيجيات العرب وإسرائيل، وكان هدفها تذويب العداوات وإسقاط حاجز الكراهية بينهما عبر التطبيع، وعلى حساب الحقائق والحقوق، حتى يصل العرب إلى النقطة التي لا يستطيعون معها مضيًّا، ولا يقدرون على البديل، فتقدّمهم لُقمة سائغة ليّنة لإسرائيل، وهذا ما حدث ـ للأسف ـ وظهرت نتائجه في قمّة الدوحة العربية الإسلامية، تلك القمّة التي كشفت من العجز أكثر مما عبَّرت عن التضامن.
وها هي إسرائيل تواجهنا بعد القمّة بأعلى درجات الصَلَف والغطرسة والغرور، فلا اعتراف بدولة فلسطينية، ولا تراجع عن تدمير غزّة وتهجير أهلها وضمّ الضفة الغربية، ولا حديث عن القدس التي هي “عاصمتها الأبدية الموحّدة”، وإنما الحديث عن إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وفرض الهيمنة على الشرق الأوسط، والتمهيد لحروب وشيكة مع سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر، ولا يختلف الخطاب الأمريكي الرسمي عن الخطاب الإسرائيلي في هذه الأهداف، يجاهر بها أحيانا ويلوذ بالصمت عنها أحيانا أخرى، مكتفيا بالتشجيع والتمويل والتحريض، لكننا رغم ذلك لا نريد أن نرى الخشبة في عين الحليف الأكبر، ولا نريد أن نعلن فقدان الثقة به، ولا نجد في البحث عن تحالفات تخرجنا ـ ولو جزئياـ من هذه الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، التي تجاوزت كل الخطوط العربية الحمراء.
يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: إن إعلان إسرائيل ضم الضفة الغربية خط أحمر بالنسبة لفرنسا، فقل لي بربِّك، أين تقع الخطوط الحمراء العربية؟ ومتى يتّخذ العرب مواقف جادة وحاسمة تجاه التغوّل الإسرائيلي الذي يزحف عليها جميعا شِبرا شِبرا بتواطؤ أمريكي مريب؟!
هل يمكن أن يكون نسف غزّة ومحوها من الوجود خطًّا أحمر للعرب يتحرّكون عنده، ليس للحرب ـ معاذ الله!ـ وإنما لوقف التطبيع والتنسيق الأمني والتعاون الاقتصادي؟ هل ننتظر التهجير ليكون خطًّا أحمر؟ ألا يكفي التحرُّش بمصر وتهديد دمشق وبيروت وضرب قطر ليكون خطًّا أحمر يقف عنده العرب ليقولوا لأمريكا وإسرائيل: “كفى”؟
وإلى أن يتّفق العرب على الخطوط الحمراء سوف تظلّ المقاومة مشتعلة في غزّة والضفة وداخل حدود الأرض المحتلّة عام 1948، يحمل لواءها رجال أشدّاء صدَقوا ماعاهدوا الله عليه، وسيظل الصمود الفلسطيني مضرب الأمثال للشعوب التي تدافع عن حقّها في الحرية والحياة، فالمقاومة أمل في الغد، والصمود يقين بالله، وقد جاء في الحديث الشريف: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه”.
وما جرائم القصف الإسرائيلي اليومي لغزّة إلا صورة حديثة من هذا التعذيب الوحشي الذي صدّه وانتصر عليه الصمود الإيماني العظيم، لقد كنّا نظنّ ذلك لونًا من الخيال حتى رأيناه حقيقة رأي العين.