عندما نذكر الله كثيراً. تصبح مساحة الجمال أكبر من مساحة القبح. وتتجاوز قوة العدل قسوة البطش. وتحتل الرحمة كل ما كسبته وسيطرت عليه القسوة. عندما نسبِّح بحمد الله كثيراً تبرق عيون البنات بالوداعة. وينسج الحرير خيوطه ببراعة. وتتوالد أوراق الفلِّ بسحر البراءة. لا حدود لكلمات الله. فلو كان البحر هو الحبر الذى نكتب به هذه الكلمات لنفد البحر ولم تنفد كلمات الله. ولو جئنا بمثله مدداً .
ولعلّ الصوفى هو الأكثر إحساساً وإيماناً بذلك رغم تلك الأفكار الخاطئة الهائمة السائدة غير المتّسمة بالدقّة عن الصوفية. مثل رفع التكاليف. وأهل الخطوة. والقدرة على شفاء الأمراض. وردِّ الغائب إلى أهله. وتحقيق الكرامات وغيرها.
إن هذه العبارات صحيحة، ولكن الخلاف كالعادة على المعنى .
ولنبدأ بمعرفة الغيب. ومعرفة الغيب باب واسع. فلا يعلم الغيب إلا الله. ولكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يُطْلع أحداً من خلْقه على غيبه فلا حرج على فضل الله، يقول سبحانه وتعالى: “عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا”. ربّنا يعلم الغيب ولكن هناك استثناء يمنحه إلى من ارتضى من رسول. والغيب أنواع. هناك غيب شهادة. وهو أبسط أنواع الغيب. كان تعلم ما جيبك من نقود ولا يعلمه جارك. كأن تعلم ما تفكّر فيه ولا يعلمه غيرك. ما تعلمه أنت وغاب عن الآخرين هو بالنسبة إليك شهادة. ما أمامك شهادة. وما وراءك غيب. لو كنت تقود سيارتك. ما تراه أمامك شهادة. وما خلفك غيب لن يصبح شهادة إلا إذا كانت هناك مرآة تنظر فيها لترى ما وراءك. وغيب الشهادة لا علاقة له بإيمان أو كفر. مستوى عادى جداً من معرفة الغيب .
كانت هناك غيوب شهادة لم يكن متاحاً للإنسان أن يعرفها. لكن تيسير العلم أتاحها. إننا لم نكن نعلم ما فى بطن الأم الحامل بالعين المجردة: ولداً أم بنتاً؟ لكن جاء السونار ليحدّد لنا ذلك. وأيضاً كشفت لنا الأشعة ما كان مجهولاً بالنسبة لنا فى داخل جسم الإنسان. الأمراض والكسور. كذلك كشف لنا الرادار الطائرات والسفن البعيدة التى لا نراها بالعين المجردة. إن ذلك علم غيب يسَّره الله لنا من خلال هذه الأجهزة .
وإذا كان الله قد أطْلَع عباده بواسطة هذه الأجهزة على مستوى معيّن من الغيب فإنه قادر ولا شـك أن يجعل بعض عباده فى حدّ ذاتهم أجهزة شفّافة تكشف بقُدرته ما يشاء من غيب لا يتاح لغيرهم. يقول صلى الله عليه وسلم: “اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله”.
من الذى أطلع سيدنا عمر بن الخطاب، وهو على منبره فى المدينة أن “سارية” محاصرٌ بالشام وأن النصر لن يكون إلا باعتصامه الجبل؟ لقد كشف الموقعة كلها ثم نادى: يا سارية، الجبل، الجبل. وسمعها “سـارية” وسط صخب المعارك وصهيل الجياد وصليل السيوف. سمعها. وميَّز صوت صاحبها. فلما عاد “سارية” من المعركة أخبر المؤمنين بما جرى. وعندما سُئِل سيدنا عمـر قال: “كلمات أجراها الله على لسانى”. وهى فعلاً كذلك. أطلعه الله على غيبه وأنطقه بالحل. وسمع سـارية النداء. إذن هى فراسـة المؤمن تكشف الغيب أحياناً بإذن الله .
هناك أشياء معينة نعرفها كبشر. شركة الكهرباء تعرف استهلاكنا من الكهرباء. شركة التليفون المحمول تعرف كم مكالمة أجرينا؟ إنها تعرف ذلك بواسطة الكمبيوتر. لكن الكمبيوتر لا يعلم الغيب. لكنه مبرمج على أداء هذه الوظيفة. والكمبيوتر وغيره أجهزة صنعها الإنسان لكشف بعض مما لا نعرف. ولكن. ذلك ليس كشفاً إلا لغيب محدود فى نطاق البشر. أما النبى فقد أخبر المؤمنين بفتح مصر. وقبل أن يحدث ذلك. على أن لا أحد يعلم الغيب بنفسه أو بذاته أو بقدرته. لكن بمنحه من الله. الله يُعَلِّم من يشاء. ولا حرج عليه .
لا قُدرة لملك مقرّب ولا نبى مُرسل ولا ولى من أهل الخطوة على شئ من هذا كله. ولكن القدرة لله سبحانه وتعالى. الله هو الذى أعطى الكلب البوليسى حاسّة الشم التى تكشف اللصوص. وهو ما لم يمنحه للضباط الكبار. هو الذى منح الكلاب القدرة على التنبؤ بالزلزال وهو ما لا يعرفه علماء الجيولوجيا. لا أحد يعلم إلا ما علمه الله. ولا حدود لما يعلمه الله .
لكن هناك غيباً آخر يسمّى غيب الإرادة. وهو الذى أخبر به الله ملائكته بأنه جاعل فى الأرض خليفة. وقالوا: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”. لقد عرف الملائكة الغيب. علموا بأن البشر سيفسدون فى الأرض. ويسفكون الدماء. قبل أن يخلق آدم. وقبل أن تتكاثر ذرّيته على الأرض. وقبل أن يحدث شئ مما قالوه .
وهناك غيب يسمّى غيب الإيمان وهو المستوى الأعلى من الغيب. وهو غيب يكشفه الله للمستوى الأعلى من خلقه. الدليل على ذلك قصة سيدنا موسى والخضر. لقد رأى ركاب السفينة (التى خرقها الخضر) ما لم يره غيرهم. رأوها وقد خرقت. وهو غيب شهادة. ورأى موسى الخضر وهو يخرقها. وهو مستوى أعلى من الغيب. فموسى يعلم من خرقها. ولكن المستوى الثالث والأعلى من الغيب هو ما رآه الخضر. الحكمة من خرق السفينة. هى الحفاظ عليها لأهلها وحمايتها من المصادرة لحساب الملك الذى كان لا يصادر سوى السفن السليـمة. ويمكن القول بالتفسير نفسـه فى قتل الغلام. وإقامة الجدار. وباقى القصة مشروح بالتفصيل من قبل .
وهناك أيضاً غيب يسمّى الغيب المحمّدى وهو خاص بمنزلة ومرتبة سيدنا رسول الله بين الخلق وبه سمّى رسول الله غيباً فى قوله تعالى: “وما هو على الغيب بضنين”. بمعنى أن الله لم يضن على رسوله بشئ مباح لخلقه غير أن هذا النوع من الغيب يدخل فى الاستثناء. فلا يظهر على غيبه (منزلة رسوله) أحداً إلا من ارتضى من رسول. إذن هذا النوع من الغيب ممنوح مع التشديد ومسموح استثناء لمن ارتضى الله من رسول .
غير أن هناك نوعاً من الغيب استأثر الله به لنفسه ولم يطلع عليه أياً من خلقه حتى رسول الله وهذا النوع من الغيب يسـمّى الغيب المطلق وهو محور الآية: “لا يعلم الغيب إلا الله”. وهو متعلق بكنه الذات العلية. أى الصفات الذاتية حتى إن من يدعى علمه بها يكون من المشبِّهين. أو المصوّرين الذين هم فى النار. وهو الذى حذّر الله منه “ويحذركم الله نفسه”. وذلك رأفة ورحمة بالعباد “والله رءوف بالعباد” لأنه لا طائل من وراء الخوض فى هذا النوع من الغيب إلا الوقوع فى المحظور وعدم التنزيه. ولله المثل الأعلى “وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون”. وهذا بيان للمسموح والممنوع بإذن الله وقدرته. فليس كل غيب يتساوى مع الغيب الآخر من حيث النوع والإباحة والتحريم .
خلاصة القـول: كل الغيوب لا يعلمها إلا الله ولكن هناك غيوباً يسمح بقدرته لخلقه بمعرفتها: غيب الشهادة. غيب الإرادة. غيب الإيمان. الغيب المحمدى. وهناك غيوب لم يسمح بها: الغيب المطلق. ولا حول ولا قوة إلا بالله.