النازيون الجُدُد.. يُهدِّدون أمن واستقرار العالم
الموقف المصري ثابت.. ومُشَرِّف إنسانيا
د. صلاح الجعفراوي: عالم اليوم “متناقض” القيم والسلوك!
د. سامى الشريف: الإنسانية تواجه تحديات مدمِّرة فى سعيها للأمن
تحوَّل “صالون الجعفراوى الثقافي”، في دورته الـ13 بعنوان “السلام من أجل تنمية المجتمع”، والذي عُقد مُتزامناً مع “اليوم العالمي للسلام”، إلى ما يشْبِه المحكمة الدولية القاضية برفْض الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين العُزَّل، بل على الدول والشعوب العربية والإسلامية، تحت غطاء الانتهاكات الإنسانية الأمريكية- وبعض أتباعها- بانتهاج سياسية الكيل بمكيالين بل الانحياز الظالم والجائر لكل قيم ومبادئ العدالة والمساواة، ضاربين بكل القوانين والتشريعات والمواثيق الدولية عُرْض الحائط!
طالب المشاركون، جميعَ المؤسسات والمنظمات الدولية، بل شعوب العالم الحُرِّ والحكماء من كل الجنسيات، بالوقوف في وجه الصَلَف والعدوان لكبح جماح المجرمين والنازيين الجُدد، حماية وصونا للأمن والسلم الدوليين.
أشادوا بالموقف المصري الثابت والراسخ والداعم للحقوق الفلسطينية، وإقرار السلام الدولي في ربوع العالم.
بدأت الفعالية بالسلام الجمهوري، وافتُتحت بآيات الذكر الحكيم تلاها د. وليد حمدي حماد، وعُقدت بتعاون مؤسسة مشوار التنموية، مع الصالون الثقافي البيئي، والجمعية العربية للحضارة والفنون الإسلامية، برعاية رابطة الجامعات الإسلامية، بحضور عدد كبير من العلماء والمثقفين من مختلف التوجهات الفكرية، وتخلَّلتها فقرة إنشاد للدكتور محمد بدري، وقصيدة شعرية للدكتور ناصر وهدان.
أدار الصالون، الكاتبُ الصحفي مصطفى ياسين- رئيس تحرير عقيدتى- مشيراً إلى أن السلام هو تحية الإسلام منذ نزل الوحي على قلب سيدنا رسول الله، رسول السلام والرحمة والمحبة، قبل ١٤٥٠ عاما. كما أنه ركيزة الأديان السماوية والفلسفات الإنسانية، مضيفا: يتواكب لقاؤنا مع الاحتفال باليوم العالمي للسلام والذي أُعلن فى ٢١ سبتمبر 1981 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبعد عقدين، وتحديدًا في 2001، اعتمدت الجمعية العامة قرارًا يجعل من هذا اليوم مناسبة لوقف العنف وإسكات البنادق.
فريضة وضرورة
قال “ياسين”: رغم أن آفاق السلام العالمية قاتمة، إلا أن حكماء العالم يُصرِّون على مواصلة مساعيهم للتصدِّى لأعداء الإنسانية، ولنشر السلام والمحبة باعتبارها فريضة دينية وضرورة حتمية لاستقرار المجتمعات وإسعاد البشرية.
أشار إلى أن مصر احتضنت في اكتوبر ٢٠٢٢ مؤتمر قمة القاهرة للسلام، وفيه أكد السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، أن مصر دفعت ثمناً هائلاً من أجل السلام في هذه المنطقة. بادرت به عندما كان صوت الحرب هو الأعلى. وحافظت عليه وحدها عندما كان صوت المزايدات الجوفاء هو الأوحد. وبقيت شامخة الرأس، تقود منطقتها، نحو التعايش السلمي القائم على العدل. وتساءل مستنكرا: أين قيم الحضارة الإنسانية التي شيَّدناها على امتداد الألفيِّات والقرون؟ أين المساواة بين أرواح البشر دون تمييز أو تفرقة أو معايير مزدوجة؟ هل كُتب على هذه المنطقة، أن تعيش في هذا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني للأبد؟ ألم يأنْ الوقت، للتعامل مع جِذْر مشكلة الشرق الأوسط؟ ألم يأت الحين، لنبذ الأوهام السياسية، بأن الوضع القائم، قابل للاستمرار؟ وهو وضع الإجراءات الأحادية، والاستيطان، وتدنيس المقدسات وخلع الفلسطينيين من بيوتهم وقُراهم، ومن القدس الشريف؟
ولذلك، فلابد من العمل معا كدول وشعوب ومنظمات دولية، للتوصُّل إلى توافق محدَّد، على خارطة طريق تستهدف إنهاء المأساة الإنسانية الحالية، وإحياء مسار السلام.
تناقض دولى!
استنكر د. صلاح الجعفراوى- رئيس ومؤسس الصالون، رئيس مجلس أمناء مؤسسة مشوار التنموية- أن تُرتكب جرائم إنسانية ولاأخلاقية، فى الوقت الذي يحتفل فيه العالم بـ”اليوم العالمي للسلام”، فهو منتهىَ التناقض الدولى! حيث يتعرَّض الفلسطينيون فى غزة لحرب إبادة تامة، ونحن نأْلَم لما يعانونه ويتعرَّضون له، ورغم ذلك فنحن ندعو ونطالب بالسلام بصِدْقٍ ولسنا كما يفعل الآخرون يتحدثون عن السلام ويرتكبون الجرائم بعكس ما يدَّعون! فنرى المواقف المخزية لبعض الدول مثل أمريكا وغيرها ممن يتطاول على الأديان والمقدسات بشكل محزن، بل يعتدون على دولنا العربية والإسلامية ونالت منها الكثير من الاعتداء! فهل يستمعون لنداء السلام؟ وهل يتحقق ما نصبوا إليه؟! أم يظلُّون يكيلون بمكيالين! مكيال خاص بهم، وآخر نعرفه جيدا؟!
يوم السلام
وعَرَض د. سامى الشريف، الأمين العام لرابطة الجـامعات الإسلاميـة، لصورة “اليوم العالمى للسلام، وسط عالم تهدده الحروب والأزمات”، موضحاً أن منظمة الأمم المتحدة أقرت عام 1981 ليكون يوماً لتأكيد مبادئ العدل والسلام والمحبة ونبذ العنف والكراهية. وحددت 21 سبتمبر سنويا للاحتفال به، ودأبت على ربط هذا الاحتفال بشعار يتغير سنوياً، واختارت لعام 2025 شعار “السلام والتنمية المستدامة”. مشيراً إلى أن السلام يحتل المرتبة السادسة عشر من أهداف التنمية المستدامة التى أقرتها أجندة الأمم المتحدة، ولسنا بصدد التأكيد على أنه لا تنمية فى أى مجتمع دون إحلال السلام واستقراره فى ربوعه، فالمجتمعات التى لا تنعم بالسلام والاستقرار لا يرجى فيها تنمية أو تطور أو عمران، فالسلام هو الأرضية الصلبة التى تُبنى عليها التنمية المستدامة، كما أن التنمية المستدامة هى الضامن للسلام الدائم.
تابع “د. الشريف”: اهتمت جميع الأديان السماوية والعقائد الوضعية بقضية السلام باعتباره قيمة إنسانية لا تستقر الحياة بدونها، فالسلام أحد أسماء الله الحسنى كما أن تحية المسلمين “السلام عليكم”، وسمِّيت الجنة فى القرآن بدار السلام.
واهتمت المسيحية بقيمة السلام ونُشرت ديانة السيد المسيح بالمحبة والسلام، كما وردت فى الديانة اليهودية كلمة (شالوم) بمعنى السلام باعتبارها تحية دينية واجتماعية.
واستدرك: لا يعنى (السلام) توقف الحروب والنزاعات فقط بل يشمل الحفاظ على قيم الأمن والعدالة والمساواة، والمصالحة والحوار. لكن من أسف فإن احتفالنا باليوم العالمى للسلام هذا العام يشعرنا بالمزيد من الحزن والألم حيث يشهد عالمنا حروباً وصراعات ونزاعات شرسة ومدمرة تقودها الصهيونية العالمية التى تخوض غمار حرب إبادة جماعية وتطهير عرقى ضد الشعب الفلسطينى الأعزل وسط صمت دولى مريب وغياب للمنظمات الدولية والإقليمية التى ترى تلك المذابح البشعة وتغض الطرف عنها، بل تشارك فيها وتزكِّيها فى أحيان كثيرة.
إن الاحتفال باليوم العالمى للسلام يدفعنا للتأمل فى واقع ما تواجهه الإنسانية من تحديات فى ظل سعيها الدؤوب لبناء عالم أكثر أمناً وعدلاً وسلاماً.
والناظر للمجازر البشعة التى تقوم بها قوات الاحتلال الصهيونية بحق المدنيين الفلسطينيين يرى أنها تنسف كل الجهود الأممية الساعية لإرساء العدل والسلام. ولقد خلقت تلك الأحداث الدامية والحرب الشرسة عدداً من النقاط والخواطر التى تستدعى التأمل والدراسة لعل من أهمها: أن هذه الحرب أفقدت شعوب العالم ثقتها فى القوى الكبرى والمنظمات الدولية. فقد أظهرت الولايات المتحدة تخاذلاً كبيراً فى نصرة الأبرياء والعُزَّل من أبناء الشعب الفلسطينى، فى حين اكتفت الدول الغربية بإصدار بيانات الإدانة والشجب، وتوارى دور الأمم المتحدة ولم تقم بواجباتها نحو نصرة هذا الشعب وإغاثته.
إن هذه الحرب التى يقودها اليمين الصهيونى المتطرف الذى لا يقيم وزناً للقيم الإنسانية والمواثيق الدولية سوف تؤدى إلى تغذية دائرة العنف والتطرف ليس فى منطقة الشرق الأوسط فقط بل فى العالم كله وسوف تتحول تلك الحرب إلى وقود لصراعات أكثر عنفاً وشراسة تهدد الأمن والسلم الدوليين.
إن هذه الحرب الشرسة تقوِّض كل الجهود المبذولة لحل الصراع العربى الإسرائيلى وتبدِّد كل الآمال فى إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية والتى طالما نادت بها الأمم المتحدة.
إن هذه الحرب وما خلَّفته من ضحايا قتلى ومصابين ومشرَّدين تخلق أزمة إنسانية كارثية فى بلد تقطَّعت أوصاله واختفت منه معالِم الحياة، وشُرِّد أبناؤه وأصبحوا بلا مأوى يستجْدُون الطعام والشراب والدواء وسط تعنُّت صهيونى بشع.
إن الممارسات الصهيونية الطائشة وامتداد ايديها للعدوان على الدول المجاورة والقيام بعمليات السطو والاعتداء على كل من سوريا ولبنان وإيران وقطر، والتهديد الدائم لدول الجوار كمصر وتركيا إنما يحمل بين ثناياه نذر حرب عالمية ثالثة لن تبقى ولن تذر.
إن هذه الحرب التى تقودها الدولة الصهيونية بدعم فاجر وغير مسبوق من القيادة الأمريكية المتطرفة يجعل السلام فى الشرق الأوسط حلماً بعيد المنال.
وكما نعرف فإن السلام ليس مهمة الحكومات والقيادات السياسية وحدها، بل إنه مسئولية جماعية تسهم فى بنائه والحفاظ عليه كل المؤسسات والهيئات الإقليمية والدولية بل والأفراد أنفسهم ليتحول إلى “قيمة” يسعى الجميع لدعمها والحفاظ عليها وجعلها سلوكاً وممارسة وليس مجرد كلمات وبيانات فضفاضة.
مؤسسات بناء السلام
وأكد د. الشريف أن الجامعات والمؤسسات التعليمية تبرز كواحدة من أهم المؤسسات التى نعول عليها كثيراً فى بناء أسس السلام والعدل والمساواة، وربما نحدد أهم الأدوار التى يمكن أن تطلع بها الجامعات فى هذا المجال فيما يلى: غرس قيم التسامح والعيش المشترك والحوار مع الاخر. تشجيع الطلاب والأساتذة على نشر خطاب إنسانى إيجابي يحارب كل أشكال التطرف والكراهية وإقصاء الآخر. إطلاق مبادرات شبابية للعمل التطوعى فى خدمة اللاجئين والمهمشين وضحايا الحروب والنزاعات ودعمهم، وتوفير فرص العيش والأمن لهم. تشجيع المبادرات الأممية التى تطلقها منظمة الأمم المتحدة والهيئات الدولية مثل (أجندة السلام المستدامة)، (والتحالف ضد التطرف).
رؤية إسلامية
وعرض د. عبدالحى عزب، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، صورة لـ”السلم والسلام رؤية إسلامية من أجل تنمية ورفاهية الشعوب والمجتمعات” من خلال محورين: الأول: السلام رؤية إسلامية عالمية. فقد جاء الإسلام بوسطيته ومبادئه السمحة ليقيم مفاهيم عظيمة ومبادئ قويمة ترتضيها البشرية كلها بفطرتها السليمة وإنسانيتها الكريمة، فكانت هذه القيم والمبادئ من أهم نقاط تلاقي المجتمع الإنساني وتقاربه وتعارفه وتعاونه مصدقاً لقوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، فالمساواة مبدأ وقيمة، وكذا التعاون والتعارف وحسن الجوار والعفو والإحسان والحرية والسلم والسلام من أجل التنية ورفاهية الشعوب، كلها قيم ومبادئ حملها الإسلام للبشرية أجمع.
هكذا يحمل الإسلام رسالة السماحة واليسر والوسطية والاعتدال والسلم والسلام إلى الدنيا بأسرها.
نعم أهدَىَ الإسلام السلم والسلام للبشرية أجمع من أجل التعايش في أمن وأمان. إن السلام هو المسالمة والمصالحة، الأمن والأمان، أمان الله في الأرض، هو ترك الحرب ونشر السلم، حتى تضع الحرب أوزارها وتبدد المخاوف وتعم التنمية والرفاهية لشعوب الدنيا بأسرها.
إن ميثاق الإسلام هو السلام، فما كان الإسلام دين حرب واعتداء وهو ينادي بالسلام ووضع الحروب، وما انتشر الإسلام في الكرة الأرضية بشرقها وغربها وشمالها وجنوبها إلا بالسلام، وما شرعت الحرب في الإسلام إلا لرد الظلم والعدوان والطغيان، فالأصل في الإسلام هو السلم والسلام وليس الحرب والعدوان يقول تعالى: “وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم” سورة الأنفال 61. أي إذا دعيت إلى السلام فاجنح له واترك الحرب التي اضطررت إليها واختر طريق السلام وعدم الاعتداء وتأمين كل من طلب الأمن والأمان وتوكل على الله.
وها هو رسول الله يحث الأمة على السلام وتصدير الأمن والأمان إلى الناس جميعاً وبثه في نفوسهم، فقد روى على بن أبي طالب رضى الله عنه أن الرسول قال “إنه سيكون بعدي اختلاف فإن استطعت أن تكون السلم فافعل” فلنحمل جميعاً هذه اللغة إلى العالم أجمع، ونرفع شعار: السلم والسلام للجميع، والأمن والأمان للدنيا بأسرها.
التنمية والرفاهية
استطرد د. العزب قائلا: أما المحور الثاني: التنمية ورفاهية الشعوب والمجتمعات مقصد شرعي: فإن التنمية بشمولها مادية أو معرفية تعني كل ما من شأنه النمو والزيادة والتعمير، وهذا مقصد شرعي أصيل أشارت إليه النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة لتدعو الناس وتحثهم على التنمية والعمارة من أجل تحقيق حياة طيبة للأفراد والمجتمعات، قال تعالى: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”، وهنا يقول رجال التفسير: “إن أهم ما في الآية من مقاصد كريمة هو قصد عمارة الأرض واستغلال خيراتها، حيث إن ما في الأرض مسخر لتسهيل حياة الإنسان، فعلى الإنسان أن يعمل من أجل تنمية الثروات واستغلالها الاستغلال الأمثل. حيث يقول الإمام ابن كثير: قوله تعالى “واستعمركم فيها” أي جعلكم فيها عماراً تعمرونها وتستغلونها. وقال الإمام القرطبي أي جعلكم عمارها وسكانها. ونقل ابن العربي عن بعض علماء الشافعية “الاستعمار في الأرض أي طلب العمارة أي خلقكم لعمارتها”.
ومعلوم أن عمارة الأرض تأخذ شكل التنمية بكافة أنواع العمارة من رزاعة، تجارة، صناعة، وإعمال العقل والفكر في كل ما يفيد عمارة الأرض واستغلال ثرواتها واستخراج كنوزها وخيراتها.
إذا كان الله قد خلق الإنسان وجعله خليفة له في الأرض، فإن طلب عمارة الأرض هو المحقق لمقصود المشرع الحكيم في التنمية وعمارة الأرض، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).
وعليه فإن خلافة الإنسان في الأرض تعني عمارتها وعمل كل ما فيه صلاح حال البشرية، وليس بالسعي في خرابها ونشر الفساد والدمار وإشعال الفتن والحروب. إن المدخل الحقيقي إلى التنمية الشاملة وتحقيق الرفاهية هو نشر الأمن والأمان لتنطلق البشرية إلى التعاون والتقارب
قال تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”، وهنا يقول الإمام القرطبي: “هذا أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى”، والمعنى: ليعن بعضكم. وقال ابن عطية: “إن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى رعاية الواجب”. وقال الماوردي: “ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن التقوى رضا الله تعالى وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته”.
إن رسالة الإسلام هى رسالة الإنسانية للإنسان في الأرض، وهى نشر الأمن والآمان والسلم والسلام، والتقارب والتعارف والتعاون بين بني البشر، والبعد عن الفتن والخراب والدمار والتطرف؛ بغية الوصول إلى المقصد الشرعي العظيم في عمارة الأرض وتنمية خيراتها.
مرتكزات السلام
وأشار د. حسن يحيى، أمين مساعد مجمع البحوث الإسلامية، إلى أن السلام في الرؤية الإسلامية واضح المعالم، فهو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو اسم للجنة التي وعد الله بها عباده، والسلام له ارتباط وثيق بالفكر والوجدان والعمران الاجتماعي والعمران النفسي، وهو مطلب العقلاء من قادة الفكر والأمم.
وللسلام في الإسلام مرتكزات ينطلق منها، ولعل أهمها التعارف، رغم اختلاف الثقافات والأجناس واللغات، وفي ضوء هذه المعاني نستطيع أن نفهم قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى…)، ومن عظمة الإسلام أنه لم يجعل اختلاف الناس في معتقداتهم مانعا من تحقيق السلام، قال تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم….).
وهنا تجدر الإشارة إلى أننا نؤمن بالسلام ونؤمن بالآخر ونحترمه، في وقت لا يؤمن الآخر بالسلام، ولا يحترم مقدساتنا، وما يحدث للشعب الفلسطيني كله وأهل غزة خصوصا ينبئ عن عدو لا يفهم لغة السلام، وفي الوقت الذي تستباح أرضنا، وتقتل نساؤنا وأطفالنا، نسمع من يتحدث عن السلام، الأمر الذي يجب معه إعادة قراءتنا لمفهوم السلام في الإسلام، لأن هناك فارقا بين السلام والاستسلام والخضوع، والذي يجب أن يستقر في أذهان شبابنا ومثقفينا أن الإسلام لا يعرف القراءة الأحادية للمفاهيم والمصطلحات، فالسلام دون قوة تحميه لون من العبث، والاستخفاف بمصالح الأمة، ومقدرات شعوبها، فالسلام قرين القوة، خاصة مع عدو لا قيم له، وهذه المفاهيم وضحها لنا القرآن، فقال تعالى “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” وبعدها قال (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها…).
والتاريخ خير شاهد على ذلك، فهذا العدو رفض كل الحلول، وعندما رأى قوة جيشنا في اكتوبر ٧٣ رضخ للسلام، لأنه لا يفهم لغة السلام إلا بالقوة.
لذلك نحن في أمسِّ الحاجة لقراءة مفاهيمنا ومصطلحاتنا وفق معطيات القرآن والسنَّة النبوية، لا وفق ما تقرره الفلسفات الغربية التي اعتادت الكيل بمكيالين.
لقد جاءت تطبيقات السنة النبوية تؤكد أن السلام يحتاج إلى قوة، وإلا صار نوعا من الذلة والمهانة، (فهذا رجل يسأل سيدنا رسول الله: يا رسول الله، أرأيت لو جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: ارأيت لو قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرايت لو قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرايت لو قتلته؟ قال: هو في النار). الحوار له وقته والقوة لها وقتها، واستعمال الحوار في وقت القوة عبث، واستعمال القوة في وقت الحوار عبث.
نحن نؤمن بالحوار، لكن مع من؟ مع من يريد تهجير الشعوب، وتجويع الفلسطينين؟!
لقد احسنت القيادة السياسة المصرية صنعا عندما بنت قوتها العسكرية، وتحسَّبت لهذا العدو، مع احترامها للسلام كقيمة ولغة لا يعرفها إلا الأقوياء. لقد أوْلَت الشريعة الإسلامية السلام عناية خاصة، فجعلت الحفاظ على الكليات الخمس اساسا للتنمية، فجاءت تحافظ على النفس والعقل والدين والمال والنسل.
واختتم د. حسن يحيى قائلا: ما نريد أن نؤكد عليه، أن الإسلام لا يعرف القراءة الأحادية للمفاهيم والمصطلحات، فالذي قال لنا “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” هو الذي قال لنا “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…”
وهذا يقتضي تكاتفا واتحادا لأمتنا الإسلامية.
شعائر السلام
وأوضح د. محمد زينهم- رئيس الجمعية العربية للثقافة والفنون والحضارة الإسلامية- أن السلام هو ممارسة الشعائر وصون أماكن العبادة التى تجعل الأرض فى سلام وتنمية مجتمعية تعود على كل البشر بالرخاء والاحترام والحرية التامة بين الفصائل والأديان المختلفة والمعتقدات، ويذكر القرآن مميزات السلام فى الإسلام بأنه الرحمة والرأفة مع الأديان الأخرى، ويحث على مساعدتهم وتناول الطعام معهم، وأباح لهم الزواج منهم، بمعنى علاقات تنمية اجتماعية طبيعية كاملة، تساعد على تطوير المجتمع وازدهاره فيطالب القرآن بالتعايش السلمي استنادا إلى أن للأديان جميعها إله واحد. والمجتمع يعيش فى منطقة واحدة وبقانون واحد، فلو كان هناك تفرقة لتمزَّقت الأمة وأصبحت متآكلة مختلفة ضعيفة، ولكن الإسلام أرسىَ قواعد فى المجتمع يجب العمل على تنميتها.
أضاف د. زينهم: ومن بين أسس السلام، نشر الثقافة والعلم بين كل الفئات، وقد كانت الجامعات والمعاهد الإسلامية منارة للجميع عبر التاريخ، فكانت مفتوحة على مصاريعها لأهل الذمَّة حتى تتلمَذ على أيدى علماء وفقهاء المسلمين، فدَرَسَ “حنين بن اسحق” على يد “خليل الفراهيدى”، حتى أصبح حجَّة فى اللغة، وتتلمذ “يحيى بن عدى” على يد “الفارابي”.
ونجد أن الإسلام ينادي بالسلام والحرية الاجتماعية والتعايش السلمي بين كل الطوائف المختلفة، وحثِّهم على البرِّ وحسن الصلة والخُلُق، ويتفقَّد أحوالهم فيحسن القادر على المحتاج، ويتجاوز عن مُسيئهم، ويدعوهم إلى التآخي والمحبة بالرفق والِّلين من اجل مجتمع متطوِّر هادئ، هدفه الحماية والتطوَّر والازدهار.
فرائد الإسلام
وألمح د. أحمد علي سليمان، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إلى (السلام في الإسلام، فرائده، شموليته، وعبقريته)، مستشهداً بسيدنا النبيُّ الذي دشَّن دولتَه الجديدةَ بخطابٍ عالميٍّ لإفشاء السلامِ وصِلة الأرْحام لكلِّ الناس، ركَّز فيه على مُقوِّمات النجاحِ والسعادة، وتتمثل في: السلام والوئام والأخوَّة والتَّعددية، تَرسيخِ الرَّحمة والتراحم، وبناءِ علاقةٍ قوية بالله؛ باعتبارها أساسَ كلِّ خير، فعنْ عبدِالله بنِ سلام (رضي الله عنه) قال: لمَّا قدِمَ رسولُ اللَّهِ (ﷺ) المدينةَ، انجَفلَ النَّاسُ قبلَهُ، وقيلَ: قد قدمَ رسولُ اللَّهِ (ﷺ)، ثلاثًا، فَجِئْتُ في النَّاسِ. فَكانَ أوَّلُ شيءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أن قالَ: (يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ).
والسلام في الإسلام ليس مجرد كلمة ترمز إلى إفشاء السلام، بل هو مشروع حضاري متكامل؛ يربط الإنسان بربه، ويهذّب نفسه، وينظّم علاقاته مع الآخرين، ويشيع الأمن في المجتمع، ويؤسس لسلام عالمي عادل، ويحفظ التوازن مع الكون والمخلوقات. إنه رسالة خالدة، لو طبّقتها البشرية بصدق، لعمَّ السلام الأرض، وتنفسّت الإنسانية الطمأنينة والأمن، وأدركت أن هذا الدين حقًا رحمة للعالمين.
وقال “د. سليمان”: يتفرّد السلام في الإسلام بعدد من الفرائد الباهرة، نذكر منها: السلام اسم من أسماء الله الحسنى، فهو سبحانه السلام ومنه تنبثق كل معاني الأمان والاطمئنان. تحية المسلمين في الدنيا، يفتتحون بها لقاءهم، ويختتمون بها صلاتهم: السلام عليكم ورحمة الله. تحية المؤمنين في الجنة، حيث يقول تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾. الجنة سمّاها الله دار السلام، لتمام الأمن فيها من كل خوف أو نقص. الإسلام نفسه مشتق من مادة “السلام”، ليكون عنوانًا للديانة ومنهجًا للحياة. السلام ترحيب الملائكة بأهل الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 24). السلام أول وصايا النبي عند قدومه المدينة: (يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ). السلام أحد أهم مواصفات المسلم: قال (ﷺ): (المسلمُ من سلم الناسُ من لسانه ويدهِ، والمؤمنُ من أمنه الناسُ على دمائهم وأموالهم). السلام دعاء متكرر في القرآن والسنة، يشيع الطمأنينة في النفوس ويؤكد الرحمة الإلهية. السلام أمان للمجتمع من الفتن والعداوات والظلم. فطرة إنسانية أقرّها الإسلام وعزّزها بالتشريعات. مقصد من مقاصد الجهاد؛ إذ شُرِعَ لرَدِّ العدوان كي يعم السلم. قيمة خالدة لا ترتبط بزمان ولا مكان. غاية كبرى لرسالة الإسلام: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
شمولية السلام
استطرد “د. سليمان”: السلام في الإسلام لا يقتصر على دائرة ضيقة، بل يمتد في دوائر متسعة: لا يقتصر على أتباع الإسلام فحسب، بل يتجاوزهم إلى غيرهم في حدود العدل والإحسان. بل إنه رسالة إنسانية عالمية. صالح لكل العصور ويشمل أرجاء الكون. فالناس فيه سواء جامع للبشرية كلها. لا يقتصر على الحياة الدنيا، بل يتجلّى بعد الموت والجنة. لا يقتصر على الفرد، بل يمتد إلى الأسرة والمجتمع والعلاقات الدولية. بل يشمل الحيوان والبيئة والكون بأسره. لا يقتصر على القول (التحية بالسلام)، بل يتجسد في العمل والسلوك بل يشمل الباطن، لا يقتصر على حال الرخاء، بل يبقى مطلوبًا في حال الشدة والنزاع. كما لا يقتصر على الدفاع عن النفس، بل يدعو إلى المبادرة بالإصلاح ودرء الفتن. لا يقتصر على البشر، بل يتجلّى في تحية الملائكة لأهل الجنة (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)، لا يقتصر على العلاقات الظاهرة، بل يشمل سلام القلب من الغل والحقد والحسد.
هذه هي عبقرية الإسلام في شمولية السلام، إنها رسالة خالدة، لو طبقتها البشرية بصدق، لعمّ السلام الأرض، ولتنفّست الإنسانية عبير الطمأنينة والسكينة والأمن، ولأدركت أن هذا الدين حقًا رحمة للعالمين.
واستدرك د. سليمان قائلا: في المقابل، نرى اليوم شعوبًا محاصرة، تُمنع عنها قوافل الغذاء، ويُترك الأطفال والنساء والشيوخ للجوع والحرمان، في مفارقة دامية بين رحمة الماضي وقسوة الحاضر!
قواعد السلام
أشار د. كارم الفقي، الواعظ بالأزهر، رئيس مجلس أمناء مؤسسة إكرام، إلى أن الإسلام جاء ليغرس في الناس قواعد السلام فكان أول ما سمعه الناس من سيدنا رسول الله في المدينة أنه أمرهم ان ينشروا نوعا من أنواع السلام بينهم وهو السلام باللسان فقال: “أيها الناس أفشوا السلام”. ثم جاء ليضع قواعد السلام بين أبناء الأمة الواحدة فقام رسول الله ليجعل بين المسلمين ما يصرف من بينهم الخلافات والمشاكل وليضع لهم قواعد السلام فآخى بين المسلمين من الأوس والخزرج. ثم وسع دائرة السلام في دولته الجديده فوضع قواعد للسلام بين المسلمين وغيرهم من اليهود فوضع المعاهدات التي تحمي لكل فريق حقه لتعش الدولة الوليدة عصر سلام جديد.
إن السلام الموجود في العالم اليوم هو سلام أعرج ناقص لأنه يطبق على دول ولا يطبق على أخرى، يطبق على فئات ولا يطبق على غيرهم! سلام وضعه أقوياء ليخدم مصالحهم ومآربهم لا ليخدم الرسالة العظمي من السلام. إن هذا السلام ليس للضعفاء منه نصيب. وإذا رجعنا بالتاريخ سنين طوال فسنرى أنه لما ضعفت الدولة الإسلامية جاء المغول من الشرق أو غيرهم من الغرب ولم يرؤفوا بالمسلمين أبدا ولما ظهر للمسلمين قوة، كانت بدايتها من مصر على يدى قطز أو صلاح الدين، قضت هذه القوة على الطغيان، لذلك تعلمت مصر من العصور الماضية أن القوي يفرض السلام على غيره.
وإذا نظرنا في الفترة الأخيرة فإن قوة مصر حفظت سلامها، وإن اي دولة بلا قوة فلا سلام لها. فالقوة تصنع السلام وتفرضه، وإذا فُرض السلام جاءت التنمية بكل أنواعها الفكرية والعلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ثم العسكرية التي تبني ولا تهدم.