جميل أن تعترف دول العالم بدولة فلسطين، تلك خطوة متقدّمة لصالح القضية الفلسطينية بلا شك، لكن هذا الاعتراف الجماعي يجب ألا يخدعنا ويجعلنا مطمئنين إلى أنه السبيل الذي سيؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض، وعلينا أن ندفع ثمنه بالموافقة على نزع سلاح المقاومة وإسقاط شرعيتها، فالحقيقة التي يجب أن نعيها جيدا في هذه اللحظة أن طوفان الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الذي شمل 157 دولة من أصل 193 دولة بما يمثّل 81% من أعضاء الأمم المتحدة، لم يكن مكافأة لحماس ولا للسُّلطة الفلسطينية ولا للعرب، وإنما هو ثمرة كفاح وصمود وتضحيات شعب عظيم بذل من دمه وأمنه واستقراره ما جعله جديرا بالحياة والعزّة والكرامة.
عندما أعلن ياسر عرفات الاستقلال عام 1988 بعد عدّة انتفاضات في الأرض المحتلّة نال هذا الإعلان اعتراف أكثر من 80 دولة، معظمهم من الدول العربية والإسلامية والدول الصديقة تاريخيا للقضية الفلسطينية، ثم مرّت سنوات طويلة لم تستطع فيها “أوسلو” أو المبادرة العربية للسلام كسب المزيد من الاعترافات، حتى شهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة، خاصة بعد طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، حيث أعلنت 20 دولة جديدة اعترافها، ومع مطلع 2025 انضمت دول عديدة من أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا إلى قائمة الاعترافات، وفي الجولة الأخيرة اعترفت معظم الدول في أوروبا والأمريكتين بالدولة الفلسطينية، ولم يبق خارج الاعتراف من الدول الكبرى غير الولايات المتحدة وألمانيا واليابان.
ورغم الغضب الجنوني الذي أصاب الكيان الصهيوني جرَّاء هذا الطوفان الدولي، فإننا يجب ألا نتوَّهم أن الدولة الفلسطينية سوف تقوم فعلا بهذه الطريقة، وأن اعتراف المجتمع الدولي بالحقِّ الفلسطيني هو الذي سيُعيد هذا الحقّ لأهله، خصوصا أن إسرائيل وحليفها الأمريكي يقاومان بكل السُبل أي جهد أو حتى إجراء عملي قد يساعد على إقامة الدولة الفلسطينية، ويتحرّكان في مسارات معاكسة بتوسيع المستوطنات وهدْم منازل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم ومحاصرة مُدنهم وقُراهم في معازل مغْلقة تفصلها جُدُر وبوّابات، مع تغيير أسمائها وهُويتها، وإخضاعها لسُلطة الأمر الواقع حتى تكون فكرة الدولة الفلسطينية مستحيلة التحقّق على الأرض.
وبعيدا عن الصياغات المراوِغة فإن الاعتراف الدولي لا يكفي وحده لإقامة الدولة الفلسطينية، وإحالة الأمر إلى إسرائيل باشتراط موافقتها واعترافها بالدولة الفلسطينية حتى تخرج للوجود، نوع من التدليس الذي مارسته وتمارسه الدول الكبرى منذ ألاعيب “لورنس العرب” في الجزيرة العربية، فليس متصوَّرا أن توافق إسرائيل طواعية على إقامة الدولة الفلسطينية وهي التي تُنكر أساسا وجود شعب فلسطين، ولا تعترف له بأيّ حقوق في أرضه، بل تعتبر هذه الأرض حقًّا تاريخيا خالِصا لها من البحر إلى النهر، لا يشاركها فيه أحد.
نعم، اعترف أكثر من 81% من دول العالم بحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلّة، ولكن يجب أيضا الاعتراف في الوقت ذاته بأن هذا الحقّ لابد له من قوّة تحميه وتجعله حقيقة، وهذه القوّة هي المقاومة المشروعة التي أقرّها القانون الدولي وميثاق الأمم المتّحدة لكل الشعوب المحتلَّة كي تتحرّر من مُستعمريها، أما أن يكون ثمن الاعتراف النظري بالدولة هو شطْب المقاومة واقعيا وتجريدها من السلاح والشرعية فهذا خداع وبهتان عظيم، يستهدف حلَّ مشكلة إسرائيل مع المقاومة وليس حلّ قضية فلسطين.
لقد جرَّب الشعب الفلسطيني وعود الحلّ السِّلمي، وسياسة الخطوة خطوة، وغزّة وأريحا أولا، فلم يتحقّق له شيء من الاستقلال، ولم يتقدّم شبرًا واحدا للأمام علي طريق الحُكم الذاتي أو حتى الإدارة الذاتية، بالعكس تقوقَعت السُّلطة في مكانها، فلا هي تحكم الضفّة أو غزّة أو أريحا أو رام الله، بل لا تحكم المقاطعة التي تقيم فيها، ولا تملك من أمر نفسها شيئا.
لا يمكن إنكار أن الاعتراف الدولي أعاد إحياء القضية الفلسطينية بضغط من الشعوب الحرّة، وأرْبَك الحسابات والتطلّعات الإسرائيلية والأمريكية، وأوقف مخطّطات إسرائيل التوسُّعية، وجعلها دولة معزولة ومنبوذة عالميا، وأصاب نتنياهو شخصيا بصدمة نفسية واضطراب عقلي مما جعله يتخبَّط ويهاجم دول العالم جميعا ويُهينها، بل يهدّدها، ويروِّج علنًا لجريمة الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي بعد أن كان ينفيها ويتخفَّى في عبارات دبلوماسية، لكن الدولة الفلسطينية لن يقيمها إلا مُجاهد وهب نفسه ودمَه لله وللوطن، ومقاوم ينْصت لصوت الأرض والحرّيّة لا للتصريحات والبيانات والوعود الكاذبة.