في قلب الريف المصري، حيث العائلة هي الحِصن، والجيرة عَهْد، والتقاليد تملك من السطوة أكثر مما يملِكه القانون، وقعت فاجعة لم تكن في دمويّتها وحدها ما يُرعب، بل فيما مزَّقته من قيم، وأسقطته من مبادئ، وفضحته من صمْتٍ جماعيٍ قاتل.
جريمة قتل مكتملة الأركان، خُطِّط لها بسبْق الإصرار، وتآزر فيها العقل مع السلاح لا من أجل حماية، بل من أجل انتقام دفين. ثلاثة أرواح أُزهقت بدمٍ بارد، وثلاثة أخرى كادت أن تلْحق بها لولا عناية الله وسرعة تدخُّل الأطباء. البنادق كانت ناطقة، لكن الضمائر كانت صامتة. وهنا تبدأ الحكاية الحقيقية. لا في تفاصيل الحادث، بل في أسباب الصمت، وتواطؤ الصمت.
والسؤال الذي لا يجوز أن نهرب منه: من هو القاتل الحقيقي؟! هل هو من ضَغَط الزناد؟ أم من ربَّى عقلًا يظن أن الكرامة تُستعاد بالدّم؟ أم مجتمعٌ يقف في كل مرّة مبرِّرًا الجريمة برِداء “الرجولة” و”الرَّدِّ على الإهانة”؟
الدين أولاً ماذا يقول؟ يقول الله تعالى: “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا” المائدة: 32.
فهل كان القتلَى قَتَلة؟ هل مارسوا فسادًا؟ أم أن القتل هنا كان لمجرّد استرداد “هيْبة” مفقودة في وهْم الجماعة لا في عين الحقيقة؟
ويقول النبي ﷺ: “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم” رواه النَسائي. فأيُّ دِين هذا الذي ندَّعي الانتماء إليه، ثم نخونه حين تَحكُمُنا العصبية، ويقودنا الغضب؟!
وأين الأخلاق؟ حين تُستبدل الشجاعة بالتهوّر، وتُستبدل القوّة بالبَغي، يُولَد ما نسمِّيه: “الوَحْش الأخلاقي”.
الشجاعة ليست في إطلاق النار، بل في كبْح اليد حين تقدر. الأخلاق لا تُقاس في ساعة الغضب، بل في قُدرتنا على التراجع رغم الاستفزاز، على الصمت رغم الإهانة، وعلى الاعتراف بأن القانون أسمى من الثأر، وأن الكرامة تُصان بالعدل لا بالدم.
أي مثال نزرعه في نفوس أبنائنا حين يرون أن “الرصاص” يُعيد الهيبة، وأن “العُصْبَة” أقوى من القانون؟ لقد سقطت في هذه الجريمة ضحايا من البشر، وسقطت معها قيم الرحمة، والحِلم، وضبط النفس، والاحتكام إلى العقل. ومتى سقطت هذه القيم، لم يعد للمجتمع حصنٌ يحميه من الانهيار البطيء، ولا للإنسانية معنى يتجاوز الغرائز.
القاتل لا يقتل ضحيّته فقط، بل يقتل نفسه على مراحل: ضميره أولًا، ثم إنسانيته، ثم حريته، ثم مستقبله. لكن الأخطر من كل هذا هو أن يتحوّل مجتمعٌ بأكمله إلى شريك صامت، يرى ولا يعترض، يسمع ولا ينهى، يبرِّر بدلاً من أن يُحاسِب.
ما حدث في تلك الليلة لم يكن حادثًا فرديًا، بل مرآة كاشفة لواقع أعمق. مجتمع يخشى المواجهة مع ثقافته، مع عاداته، مع رواسب الظلم الكامنة فيه. مرآة تقول بوضوح: الخلَل ليس في يد القاتل وحدها، بل في البيئة التي أنبتَته.
ستُدَان الجريمة أمام القضاء، وسيُنزل القانون عقابه، لكنّ الأهم أن نُدينُها نحن في ضمائرنا، أن نعلّم أبناءنا أن الدّم لا يُغسل بالدّم، وأن الرجولة الحقّة هي إصلاحٌ لا سفك، ضبطٌ لا انفجار.
لقد حان الوقت لنراجع أنفسنا كمجتمع، لا فقط في ضوء الأحكام، بل في ضوء الأسئلة الحقيقية: هل نريد لمجتمعنا أن يُبنَى بالسلاح أم بالحوار؟ بالثأر أم بالعدل؟ بالغريزة أم بالقيم؟
فلعلّ هذه الجريمة تكون صرخة إيقاظ، قبل أن نتحوّل جميعًا إلى ضحايا لصمتنا الطويل.