“الإحياء” بـ”الذكاء الاصطناعي”.. حرام!
د. هشام ربيع: الاستخدام المشروع.. فيما يفيد
الشيخ أحمد خليل: يفتح باب الفتنة
د. صالح الأزهرى: كذب وتضليل.. إثمه عظيم
د. عبدالعزيز آدم: الذكريات “المصطنعة” تُبقي الإنسان “أسير الوهم”
تحقيق: سمر هشام
أثارت ظاهرة “تركيب الصور مع الأموات” باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يقوم البعض بدمج صور الراحلين في لقطات جديدة لتبدو وكأنها لحظات عاشوها مع ذويهم من قبل، بينما يعتبرها البعض وسيلة لاسترجاع الذكريات أو تكريم الأحباء.
وأجمع علماء الدين وخبراء النفس أن هذه الممارسات تنطوي على خطورة شرعية وأخلاقية ونفسية، إذ تحمل في طياتها كذبًا وتضليلًا، وتُهدد مسار الحزن الطبيعي وتشوّه نقاء الذكرى، لتبقى التساؤلات مطروحة: هل نحن حقًا نكرم موتانا بهذه الصور، أم نجرح الحقيقة ونُعيد فتح جراح لم تلتئم بعد؟
غشٌّ مرفوض
قال د. هشام ربيع- أمين الفتوى بدار الإفتاء-: إن تزييف الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي، سواء مع الشخصيات المشهورة أو الأشخاص العاديين، حتى وإن كان على سبيل المزاح، لا يجوز شرعا ويعد حراما، موضِّحا أن هذا الفعل يندرج تحت قول النبي: «من غشَّنا فليس منَّا»، مؤكّدا أن الغش لا يقتصر على المال والمعاملات المادية فقط، بل يشمل جميع صور الخداع، ومنها الصور المُفبرَكة التي تُظهر غير الحقيقة.
وحذّر د. هشام من أن الخطورة تتضاعف إذا استُخدمت هذه الصور للإضرار بسُمعة الآخرين أو نشر الشائعات، فقد تؤدّي إلى التفريق بين الأزواج أو فقدان الوظائف، مشدّدًا على أن القاعدة الشرعية «لا ضرر ولا ضرار» تقتضي منع مثل هذه الأفعال.
ووجّه نصيحة للمواطنين بضرورة التحقُّق والتثبُّت قبل نشر أو إعادة نشر أي صورة أو خبر، مؤكّدًا أن الاستخدام المشروع للذكاء الاصطناعي يجب أن يكون فيما يعود بالنفع، مثل التعليم والبحث العلمي، لا فيما يضر بالناس أو يسيء لسمعتهم.
باب للفتنة
أما الشيخ أحمد خليل، من علماء الأزهر، فقد وصف هذه الصور، خاصة تلك التي تتضمن أحضانًا أو أوضاعًا رومانسية أو إيحاءات غير لائقة، بأنها محرمة شرعًا، لأنها تثير الغرائز وتفتح باب الفتنة وتنشر الفاحشة بين الناس. واستشهد بقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، مشيرًا إلى أن الشرع أمر بصيانة البصر والقلب، فكيف يُقبل بافتعال صور توهم بالحرام وتثير الشهوات؟
وأشار إلى أن هذه الظاهرة قد تؤدي إلى خراب بيوت وإثارة الغيرة والشكوك بين الأزواج والمخطوبين، وربما تتسبب في مشاكل اجتماعية ونفسية حقيقية، مؤكدًا أن المسلم مأمور بحماية بيته وعرضه من مواطن الفتنة، مستشهدًا بحديث النبي “إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”.
ودعا الشباب والفتيات إلى التوقف الفوري عن هذه الممارسات، واستثمار التكنولوجيا في مجالات نافعة ترفع الوعي وتنشر الخير، محذرًا من أن هذه الأفعال ليست مزاحًا بريئًا، بل باب خطير على الأخلاق والدين، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
إثم عظيم
يقول د. صالح الأزهرى، موجِّه عام بالوعظ ولجان الفتوي بالأزهر: ما انتشر مؤخرًا وفعله الكثير من روَّاد السوشيال ميديا من خلال برامج الذكاء الاصطناعي في تركيب صور لهم مع بعض الشخصيات العامة سواء كانوا علي قيد الحياة أم فارقوا الدنيا ولقوا ربهم؛ ليعلموا أن هذا الفعل محرم شرعًا؛ وحرمته شريعة الإسلام لأن هذا كذب وتدليس وتضليل منهم بنشرهم تلك الصور علي صفحاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدعوي أن هذا هو التريند المنتشر بين الناس وحرمة ذلك في الكذب والتضليل.
يضيف د. صالح: من يري تلك الصور أنها حقيقية والواقع خلاف ذلك فهذا كذب وحرمت شريعة الإسلام الكذب بشتى صوره حتي لو كان ذلك علي سبيل المزاح لأن نبينا حذر من الكذب وبين أنه إثم عظيم، وقال في حديث صحيح له لما سئل “أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: نعم؛ أيكون جبانًا؟ قال: نعم. أيكون كذابًا؟ قال: لا”، ومعني ذلك أن الكذب في نشر تلك الصور مع تلك الشخصيات العامة حتي لو كان علي سبيل المزاح فهو حرام لأنه تضليل وكذب وادعاء منهم لا حقيقة له.
وحذر د. صالح رواد مواقع التواصل الاجتماعي من السعي وراء تلك الترندات التي تنتشر بين الحين والآخر لخطورة إثمها عند الله عز وجل لما يترتب عليها من الكذب والتضليل والغش، وقد حذر نبينا من الغش بجميع صوره فقال في الحديث الصحيح “من غشنا فليس منا”، والغش لا يكون كما يعتقد بعض الناس في المعاملات المالية فقط بل في جميع تعاملات الإنسان المالية وغيرها كحال هؤلاء الذين ادعوا كذبًا وتضليلًا بنشرهم تلك الصور التي تجمعهم بالآخرين كذبًا.
ويقول د. صالح: ما يقوم به بعض الناس من استخدام برامج الذكاء الاصطناعي بنشرهم لتلك الصور لأقاربهم وهم يتحركون أو يغمضوا أعينهم أو غير ذلك.
هذا الأمر لو كان فيه إساءة للموتي وانتهاك لحرمتهم فهو حرام، اما إذا كان بقصد استرجاع الذكريات مع أقاربهم دون الإساءة لهم فالأصل فيه أنه حلال، وإن كان الأفضل الابتعاد عن ذلك كله مما لا فائدة ولا جدوى من ورائه.
وأنهي د. صالح حديثه مؤكدًا أهمية التركيز علي الدعاء للموتي وسؤال الله لهم المغفرة والجنة وبذل وتقديم الصدقات عنهم بنية أن يصل ثواب ذلك إلي الميت لأن هذا العمل هو الذي سينفع الموتي ويستبشرون به خيرًا ويفرحون به في قبورهم لحديث النبي “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”، فالميت لن ينتفع بتلك الصور ولن يصل إليه ثواب هذه الأفعال التي يستخدمها بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
زمن الذكاء الاصطناعي
من جانبه يقول د. عبدالعزيز آدم، عضو الاتحاد العالمي للصحة النفسية واخصائي علم النفس السلوكي: في زمنٍ أصبح فيه الذكاء الاصطناعي حاضرًا في تفاصيل حياتنا اليومية، لم يعد دوره مقتصرًا على تسهيل الحياة أو تحسين جودتها، بل تجاوز ذلك ليغزو أكثر مناطق الروح حساسية: الفقد، والذكريات، والحنين.
ومن بين الظواهر التي أثارت جدلًا واسعًا مؤخرًا ما يُعرف بتريند “تركيب الصور مع الأموات”، حيث يُدمج الراحلون في لقطات حديثة لأقاربهم أو أحبائهم الأحياء لتبدو وكأنها لحظات جديدة جمعت بينهم.
يضيف: قد يراه البعض وسيلة جميلة للحفاظ على الذكريات أو لتكريم المفقودين، لكنه في جوهره يطرح أسئلة نفسية وأخلاقية وفلسفية شديدة العمق: هل نحن نكرم أحبّاءنا حقًا حين نعيد تشكيل صورهم على نحوٍ لم يعرفوه؟ أم أننا نعيد فتح جراح لم تلتئم، ونقحم أنفسنا في دوامة من الوهم الذي يؤذي أكثر مما يواسي؟!
يشير د. آدم إلى أن الحنين ليس فقط شعور إنساني طبيعي، بل هو أيضًا جزء أصيل من تجربة الفقد التي يمر بها كل إنسان، فمن الطبيعي أن نشتاق إلى من فقدناهم، وأن نلجأ إلى صورهم القديمة أو تسجيلاتهم الصوتية، فنستمد منها عزاءً يخفف من وطأة الغياب، وهذه الممارسات ليست مرضية، بل تُعد جزءًا من رحلة الحزن الصحية التي تساعدنا على مواجهة الألم وتجاوزه، ولكن الخلل يبدأ حين ننتقل من استعادة الذكريات الحقيقية إلى خلق صور جديدة مصطنعة لم تحدث قط، عندها يجد العقل صعوبة في الفصل بين ما هو واقعي وما هو ملفق، لا سيما حين يتعلق الأمر بمشاعر الفقد الجارفة، وهنا يتحول الحنين الصادق إلى نوستالجيا مُشوهة تبقي الفرد أسيرًا لوهم لا ينتهي.
وحذر د. آدم من المخاطر النفسية المترتبة على هذا التوجه تكون عميقة أكثر مما نتخيل، فحين يرى الشخص صورًا جديدة لراحلٍ عزيز في مواقف لم تحدث في الحقيقة، قد يتعطل مسار الحزن الطبيعي الذي يقوم على مواجهة الواقع الأليم والتكيف معه بدلًا من أن يسير الفرد في طريق القبول، يبقى عالقًا في دائرة الإنكار، يرفض أن يسلّم بأن أحبته قد فارقوا الحياة.
اضطراب الإدراك
ويؤكد د. آدم أنه مع الوقت، قد يتطور الأمر إلى اضطراب في الإدراك حيث يجد نفسه مرتبطًا بعالم افتراضي يُقنعه بأن الموت لم يقع، فيغدو عاجزًا عن الفصل بين الوهم والحقيقة، وقد لا يقف الأمر عند حدود النفس فحسب، بل يمتد إلى الجسد، إذ يحذر بعض الأطباء النفسيين من أن الصدمات العاطفية الناتجة عن مثل هذه التجارب قد تؤدي إلى ما يُعرف بمتلازمة القلب المنكسر، وهي حالة مرضية مؤقتة تُشبه النوبة القلبية وتنشأ نتيجة التوتر النفسي العنيف.
يضيف: إذا تجاوزنا الجانب النفسي إلى الأخلاقي، ظهر تساؤل لا يقل أهمية: هل يحق لنا إعادة تشكيل صورة إنسان فارق الحياة دون إذنه؟ إن الموت له حرمته، والإنسان بعد رحيله له خصوصية لا تقل احترامًا عن حياته، وحين نُعيد استخدام صورته في سياق لم يعرفه، فإننا نتجاوز تلك الخصوصية ونتعامل مع الذكرى كأنها مادة بصرية قابلة للتلاعب، بل إن الأمر يتجاوز الفرد إلى الجماعة، فالذكريات ليست ملكًا شخصيًا فقط، بل جزء من ذاكرة جمعية للأسرة والمجتمع، وحين نُدخل التزوير إلى هذه الذاكرة، فإننا نعبث بتاريخ عاطفي وإنساني مشترك، ونحوله إلى سلعة استهلاكية تخضع لقوانين التريند العابر على وسائل التواصل.
وأكد د. آدم أنه لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا في جوهرها ليست شرًا مطلقًا، فهي أداة عظيمة قد تفتح آفاقًا للإبداع والابتكار في الفن والطب والتعليم، لكنها تصبح سلاحًا خطيراً ذا حدين حين تُستخدم في أعمق مساحاتنا الإنسانية هشاشة، كالذكريات والفقد والحزن، ومن هنا تأتي الحاجة إلى وعيٍ جمعي يضع حدودًا لا ينبغي للتقنية تجاوزها، ويمنعها من التغلغل إلى مناطق قد تضر بالنفس أكثر مما تنفعها.
تكريم الراحلين
ويتساءل د. آدم: كيف نكرم أحبّاءنا الراحلين حقًا؟ إن الإجابة لا تكمن في اختراع صور لم يعيشوها، بل في الاحتفاظ بما تركوه من لحظات حقيقية أثيرة، وفي الدعاء لهم، وفي إحياء إرثهم وأعمالهم، وفي نقل قيمهم وأثرهم إلى الأجيال التالية. فالذكريات الأصيلة، مهما كانت بسيطة، تحمل صدقًا لا تمنحه أي صورة مُركبة. تكريم الموتى يكون بالحفاظ على نقاء ذكراهم، لا بتزييفها، وبالوفاء لهم في غيابهم، لا باختلاق حضور زائف يجرح القلب ويشوّه الحقيقة.
في النهاية يؤكد د. آدم، أن التكنولوجيا قد تمنحنا أدوات مذهلة، لكنها لا تملك أن تمنحنا عزاءً حقيقيًا، ذلك العزاء نجده فقط حين نتقبل الفقد كما هو، ونواجهه بصدق، ونحتفظ بالذكريات كما عشناها فعلًا، لا كما يرسمها لنا الوهم، إن أعظم تكريمٍ لأحبائنا الذين رحلوا هو أن نُبقي صورتهم نقية كما كانت في الحقيقة، لا كما قد يزيفها الخيال الاصطناعي.