ضابط بالموساد: المخابرات المصرية أعمت عيوننا قبل الحرب
الإسرائيليون لم يتوقعوا أن نهاجمهم ويتكبدوا خسائر بشرية ومادية
محلل عسكري صهيوني: آلاف الجنود دخلوا المستشفيات النفسية بعد الحرب
حسام وهب الله
لا تزال حرب السادس من أكتوبر 1973، أو ما يُعرف في إسرائيل بـ”حرب يوم الغفران”، حدثًا فارقًا في التاريخين المصري والإسرائيلي. فبينما نحتفي نحن المصريين بالانتصار العظيم الذي حققته قواتنا المسلحة وأعادت لنا العزة والكرامة، يستعيد الإسرائيليون الذكريات الأليمة التي هزت وجدانهم وأدخلت الرعب إلى مجتمعهم وجيشهم، حتى أن كثيرًا منهم يصفونها بأنها “أكثر الحروب مأساوية” في تاريخهم القصير.
ولعل ما يميز هذه الحرب أن شهادات قادة العدو وصحافته تكشف أحيانًا أكثر مما ترويه الكتب المصرية، إذ يعترفون بهول المفاجأة التي كسرت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
بداية الزلزال
تصف دائرة المعارف العبرية حرب أكتوبر بأنها زلزال هزَّ إسرائيل من جذورها، ليس فقط على جبهة القتال، وإنما داخل المجتمع بأسره. فخلال ساعات قليلة، انهارت خطوط الدفاع المحصنة على قناة السويس، ووجدت القيادة الإسرائيلية نفسها عاجزة عن التعامل مع الهجوم الكاسح والمنسق الذي شنته مصر وسوريا في وقت واحد. ورغم أن الحرب استمرت حتى 24 أكتوبر فقط، إلا أن تأثيرها النفسي والسياسي امتد لعقود طويلة لاحقة.
صحيفة “مكاو” العبرية كتبت في تقريرها عن الحرب: “عند الساعة الثانية من ظهر السبت 6 أكتوبر، شن الجيشان المصري والسوري هجومًا مباغتًا على إسرائيل. كانت كلمات جولدا مائير، رئيسة الوزراء وقتها، لا تزال تثير القشعريرة: هذا يوم الغفران الذي سيظل محفورًا في ذاكرة كل إسرائيلي”. وأضافت الصحيفة أن إسرائيل تلقت أكبر ضربة عسكرية في تاريخها، حيث تكبدت خسائر بشرية ومادية فادحة، وتعرضت لجرح معنوي لم يندمل حتى اليوم.
تفاصيل اليوم الأول
أما صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فقد أفردت مساحة واسعة لتوثيق اليوم الأول من الحرب. وأشارت إلى أن المعارك في سيناء كانت مريرة، حيث انهارت الحصون واحدًا تلو الآخر، وقُتل وأُسر العديد من الجنود الإسرائيليين. وأضافت أن نحو 200 دبابة إسرائيلية دُمرت أو تعطلت في الساعات الأولى، من أصل 300 كانت متواجدة على الجبهة.
ونقلت الصحيفة عن قائد موقع “هيزيون”، إيتسيك ماور، قوله عبر اللاسلكي: “نحن محاصرون بكل معنى الكلمة. عشرات الدبابات ومئات الجنود يتقدمون نحونا ببطء ولكن بثقة”. أصوات أخرى عبر اللاسلكي لم تكن أقل رعبًا: “إنهم يدخلون من البوابة! نحن نختنق هنا!”.
ومع حلول المساء، خرج وزير الدفاع موشي ديان في خطاب متلفز ليطمئن الشعب قائلًا إن “الوضع ليس خطيرًا”، لكنه في اجتماع هيئة الأركان اعترف بأن ما يحدث يوازي “هدم الهيكل الثالث”.
فشل المخابرات
واحدة من أكثر النقاط التي كشفتها الحرب هي فشل أجهزة المخابرات الإسرائيلية. ففي كتابه “قصة المفاجأة القاسية”، كتب يوئال بن فورت، الضابط السابق في المخابرات العسكرية “أمان”، أنه كان مسئولًا عن وحدة 8200 التي كانت تراقب الاتصالات المصرية. وقال: “رغم كل الأجهزة المتطورة التي امتلكناها، لم نلتقط أي إشارة حقيقية تؤكد نية المصريين شن الحرب”.
وأضاف: “المعلومة الوحيدة المثيرة للقلق كانت تمركز 260 وحدة مصرية في البحر الأحمر. عندما حللتها، استنتجت أنهم يستعدون للحرب. ذهبت إلى مدير المخابرات إيلي زاعيرا، واقترحت استدعاء 150 ألف جندي احتياط، لكنه رفض وقال: المصريون لن يحاربوا. اتضح لاحقًا أنهم نفذوا خطة خداع مذهلة”.
كشف الجواسيس
وأضاف بن فورت أن المخابرات المصرية نجحت في كشف عشرات العملاء الإسرائيليين داخل القاهرة. حيث كانت تصدر الأوامر للقوات المصرية برفع درجة الاستعداد، وهو ما يجعلنا نضطر لمخاطبة عملائنا لجمع المعلومات ليكتشفهم المصريون بسهولة، وفى الأيام الأولى للحرب أجبرتنا الحكومة على الاتصال بعشرات الجواسيس الذين يعملون فى القاهرة، الأمر الذى أدى إلى كشفهم والقاء القبض عليهم وحتى الإسرائيليين الذين تعلموا اللغة العربية فشلوا فى تعقب الرسائل اللاسلكية التى تم تبادلها بين الوحدات العسكرية قبل الحرب وأثنائها، والسبب أن الرسائل تم نقلها بلغة عربية غريبة لم نكتشفها إلى بعد نهاية الحرب حيث قام بنقل رسائل الوحدات جنود مصريين من النوبة وبالطبع لا أحد يعلم معنى ما كانوا يقولونه.
اعتراف جولدا مائير
أمام لجنة التحقيق التي شُكلت بعد الحرب، قالت جولدا مائير إن أكبر خطأ ارتكبته حكومتها هو الاستهانة بالرئيس أنور السادات. وأضافت: “كنا نرى أن السادات أضعف من عبد الناصر، وإذا كان الرئيس القوي لم يجرؤ على شن حرب، فكيف يفعلها الرئيس الضعيف؟”. وأشارت إلى أن اليقين بأن مصر لن تحارب كان سبب الكارثة التي عاشتها إسرائيل مع بدء إطلاق النار.
الصدمة النفسية
الخسائر الفادحة لم تنعكس فقط في أعداد القتلى والأسرى والمعدات المدمرة، بل تجاوزت ذلك إلى آثار نفسية عميقة. كتب المعلق العسكري زئيف شيف في كتابه “زلزال حرب يوم الغفران”: “هذه أول حرب اضطر فيها الأطباء لمعالجة آلاف الجنود من صدمة القتال. بعضهم فقدوا ذاكرتهم تمامًا، وبعضهم احتاجوا إلى علاج طويل في المستشفيات النفسية”.
وأكد الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتزوج في مذكراته أن الصدمة أصابت القيادة أيضًا، وعلى رأسها موشي ديان، الذي فقد ثقته بنفسه وانطوى على ذاته بعد الحرب. وقال هيرتزوج: “كان ديان يؤمن دائمًا أن العرب لن يجرءوا على الهجوم، لكن أكتوبر أثبت أن هذا مجرد وهم”.
الطيران المصري
من أبرز المفاجآت التي واجهها الإسرائيليون كانت براعة الطيارين المصريين. فإسرائيل اعتادت أن ترى نفسها متفوقة بفضل الطائرات الأمريكية الحديثة وساعات التدريب المكثفة، بينما اعتبرت الطيارين المصريين أضعف. لكن الحرب قلبت المعادلة.
الخبير العسكري الإسرائيلي دور ميدلتون اعترف أن الخسائر في سلاح الطيران الإسرائيلي كانت أكبر مما توقعوا. بينما قال الطيار الإسرائيلي “بدور أينرك”: “لقد أذهلنا المستوى الممتاز للطيارين المصريين وكفاءتهم القتالية العالية”.
الدروس والعِبر
بعد الحرب، تغيرت صورة الجيش الإسرائيلي داخل المجتمع. توقفت “ألبومات النصر” عن الصدور، وانتهت “عبادة الجنرالات”، وبدأت الثقة المطلقة بالقيادة العسكرية تتآكل. كما توقف الاستهزاء بالعرب وقادتهم، وبدأ الإسرائيليون ينظرون إلى الرئيس السادات وقادة الجيش المصري باحترام.
وخلال مفاوضات فصل القوات التي أعقبت الحرب، تعرف الإسرائيليون على شخصية الفريق محمد عبد الغني الجمسي، رئيس الأركان المصري، وبدأوا يقدّرون صلابته وحكمته. وفي وقت لاحق، عندما زار السادات القدس وبدأت مفاوضات السلام، ازداد تقديرهم له باعتباره زعيمًا شجاعًا قاد بلاده في معركة تاريخية.
.حرب أكتوبر 1973 لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت لحظة فاصلة غيّرت ميزان القوى في المنطقة، وأثبتت أن المصريين قادرون على التخطيط والخداع والقتال بكفاءة عالية. بالنسبة للإسرائيليين، كانت مأساة كبرى وصحوة مؤلمة، وبالنسبة للمصريين، كانت يوم الفخر والكرامة واستعادة الثقة بالنفس.