بقلم د. حنان شبانة
أستاذ مساعد جامعة تبوك سابقا
“في زمن تتحدث فيه الأجهزة أكثر مما تتحدث فيه الأفواه، لم يعد السؤال: كيف نبلغ الناس؟ بل: كيف نصغي إليهم عبر ضجيج العالم الرقمي؟” عبارة تلخص أحد أكبر تحديات الخطاب الديني المعاصر ففي عالم مشبع بالرسائل المتدفقة من كل اتجاه، لم تعد المهمة إيصال الصوت فحسب، بل الإنصات العميق لما يقوله الناس – أو ما لا يقولونه – بين سطور منشوراتهم، وتعليقاتهم، وصمتهم الرقمي.
فلم تعد المشكلة في الوصول إلى الجمهور، بل في فهمه وسط هذا الطوفان المعلوماتي، حيث تتداخل القضايا، وتتقاطع المرجعيات، وتتشكل القناعات في فضاءات لم تعد تخضع لمنطق الخطب، أو منابر الوعظ التقليدية. فنحن اليوم نعيش واقعا تعيد فيه السرعة تعريف كل شيء: من العلاقات الإنسانية إلى أنماط التعبير عن الإيمان. ولم تعد الدعوة الإسلامية حكرا على منبر، أو محصورة في المسجد، بل أصبحت تخترق الفضاءات الرقمية، حيث يمتزج الجد بالهزل، وتتنافس الرسائل الروحية مع مقاطع الترفيه، ونشرات الأخبار على ذات الشاشة، وفي هذا العصر، تتسابق الكلمات مع الصور، وتقاس المعاني بعدد الإعجابات والمشاركات.
وفي ظل التحولات المتسارعة للمشهد الرقمي، لم يعد دور الداعية يقتصر على نقل الرسالة فحسب، بل أصبح من الضروري أن يعيد صياغتها، ويجدد وسائطها، ويتقن لغة جديدة يفهمها الجمهور الرقمي ويتفاعل معها. لقد باتت الدعوة اليوم تتطلب إلماما دقيقا بآليات عمل المنصات، وامتلاك وعي متقدم بثقافة هذا الجمهور، الذي لم يعد مجرد متلق، بل أصبح شريكا في صناعة المحتوى من خلال المشاركة، والتعليق، وإعادة التشكيل.
ولذلك، ينبغي أن يتطور الخطاب الديني من تلقين جامد إلى تفاعل حي، يحفظ القيم ويواكب الوسائل، مستندا إلى قول الله تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]، وإلى توجيه نبيه (صلى الله عليه وسلم):” إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر, مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه”( رواه ابن ماجه ).
ومن هنا تنبثق الأسئلة المصيرية: هل نحن مستعدون لصياغة دعوة رقمية تستوعب روح العصر دون أن تتنازل عن جوهر الرسالة؟ وهل نملك البصيرة لاستخدام الوسائل الحديثة بذكاء يليق بسمو الغاية؟ وهل نستطيع أن نجعل من هذه الوسائل أدوات هداية لا أدوات تشويش، ومنصات بناء لا منصات صراع؟
فالخطاب الديني اليوم لا يحتاج فقط إلى تحديث في لغته، بل إلى تجديد في رؤيته، وصدق في تفاعله، وشجاعة في ملامسة الأسئلة الجديدة التي يطرحها العصر. إنه خطاب لا يعلو فوق الناس، بل ينزل إليهم، ينصت لنبضهم، ويحاورهم بلغتهم، ويوقظ فيهم بقايا المعنى في عالم طغت عليه الصورة وسادت فيه السرعة.
وفي هذا التوجه الحديث، تبرز شخصية الواعظ الرقمي بوصفها مزيجا معقدا بين الهوية الدينية، والمهارة التقنية. فلم يعد الأمر مقتصرا على نقل المعلومة، بل بات يتطلب تنسيقا واعيا بين روح النص ومزاج الجمهور الرقمي. فاختيار المنصة، وتوقيت الطرح، ونبرة الصوت، بل وحتى الإيماءة البصرية، كلها عناصر تسهم في تشكيل أثر الخطاب.
وما يجعل هذا النموذج مميزا هو إدراكه لمسؤولياته الأخلاقية، وحرصه على تفادي الوقوع في فخ السطحية التي قد ترافق سعي البعض لنيل الشهرة. فالواعظ الرقمي الحقيقي لا يلهث خلف الأرقام، بل يصنع ثقة مستدامة مع جمهوره، مدفوعا بيقين داخلي أن الدعوة ليست منتجا يروج، بل رسالة تصان. والتقنية في هذا المشهد، ليست عدوا، بل وسيلة إذا ما حكمت بالعلم، وتزينت بالحكمة، وأضاءت بنور الروح.
لكن مع هذه الإمكانات تأتي تحديات لا تقل خطورة، فالفضاء الرقمي، رغم ما يمنحه من حرية وسرعة، يفتح الأبواب أيضا أمام فوضى معرفية، وانتشار الشائعات، وتصاعد الخطابات المتطرفة. فيجد الداعية نفسه أمام واقع يحتاج فيه إلى فطنة في الانتقاء، وبصيرة في التوجيه، ووعي بأن ليس كل منصة صالحة للخطاب، ولا كل جمهور مستعد للتلقي دون سياق معرفي راسخ.
بل إن التحدي الأكبر يكمن في المحافظة على صدقية الخطاب وسط هذا التداخل الحاد بين ما هو حقيقي، وما هو مفبرك فالمصداقية اليوم لا تقاس بكثرة المتابعين، بل بمدى الاتساق بين القول والفعل، وبالقدرة على إحداث تأثير يترك أثرا لا يزول مع تمرير الشاشة.
ويتزايد هذا التحدي حين يغفل البعض التمييز بين الداعية الرقمي، وصانع المحتوى العابر، فقد يظن المتلقي أن من يتحدث بالدين مؤهل له، في حين أن هناك فارقا كبيرا بين من تحركه الرسالة، ومن تحكمه مؤشرات التفاعل والمشاهدات، وهذا الخلط يربك المشهد الدعوي، ويؤكد الحاجة الملحة إلى بروز الداعية الحقيقي، بخطاب عميق ومتزن، يوازن بين الثبات والتجدد، مستندا إلى علم راسخ، وفهم دقيق، وسلوك يعكس ما ينادي به.
وبين هذه الفروق الدقيقة، تنشأ مسؤوليات جديدة تتجاوز النشر إلى بناء التأثير، فالجمهور الرقمي بات أكثر وعيا، وأكثر تحليلا، وأقل تسليما. فلم يعد المحتوى يستهلك بصمت، بل يناقش، ويفكك، ويقارن، ما يضع الواعظ أمام ضرورة الإلمام بأدوات الإعلام الرقمي، وفهم الثقافات المتنوعة، والقدرة على مخاطبة الحاضر بلغة لا تغادر الأصالة ولا تصادر الذكاء.
وفي هذا الإطار، تصبح الأخلاقيات الرقمية ضرورة لا ترفا، وتغدو فطنة التوقيت، ومرونة الأسلوب، وصدق النبرة، عوامل حاسمة في صناعة التأثير الحقيقي، فالداعية لا يقاس فقط بما يقول، بل بكيفية حضوره، وانسجامه مع نبض اللحظة دون أن يضيع في زحمتها.
هكذا، ومع تنامي الوعي بهذه التغيرات، تتبلور معالم جديدة للدعوة في العصر الرقمي، وتطرح على الساحة أسئلة ملحة حول الدور الذي يمكن لكل فرد أن يلعبه في هذا المشهد المتداخل.
فلم يعد الواعظ الرقمي اليوم مجرد الناقل للنصوص أو الراوي للأقوال؛ بل غدا تجسيدا حيا لرسالة خالدة تتكيف دون أن تتنازل، وتتجدد دون أن تذوب. وفي زمن تحكمه الأنظمة الذكية التي لا تعرف الرحمة، وتستهلك السرعة فيه كل جميل وعميق، تظل الدعوة في أمس الحاجة إلى من يعيد إليها دفء الإنسان، ويوقظ فيها المعنى وسط هيمنة الآلة وخفوت نبض القلوب.
وإن كان هذا المقال مساحة للتأمل، فهو أيضا دعوة للتحرك لكل قارئ يحمل في قلبه الضمير، أنت معني بأن تكون شريكا في هذا التحول؛ أن تساند الخطاب الرشيد، وتنتصر للوعي الأخلاقي، وتحسن اختيار من تتابع وتصغي إليه. فالمستقبل لا يبنى بالخطب الرنانة، بل بالأثر النقي، بالصوت الصادق الذي لا يعلو فقط، بل يسمو، وفي زمن يعج بالضجيج، لسنا بحاجة إلى أصوات جديدة، بل إلى حكمة صادقة تهدئ الصخب، وتعيد للقلوب صفاءها. لم يعد النقص في عدد المتحدثين، بل في القلوب التي تنير الطريق وسط عتمة الشاشات، وتمنح للرسالة روحها.
وقد قيل بحق:” الكلمة الطيبة لا تموت، بل تمضي إلى الأرواح فتوقظ فيها نور الهداية”. وصدق الله العظيم إذ قال
:﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم):” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” (رواه أبو يعلى).
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل نحن مستعدون لإتقان فن الدعوة في زمن الشاشة، كما أتقنها الصحابة في زمن السكينة؟
هل نملك من الوعي والبصيرة ما يعيد للخطاب هيبته، وللقيم حضورها، في عصر أصبحت فيه القلوب أقسى، والبصائر أكثر تيها وسط بريق الشعارات المضللة؟ إن المشهد الرقمي ليس محايدا؛ فاختر موقعك فيه بعناية. هل ستكون باعثا للنور؟ أم شريكا في العتمة؟