بقلم د. على فؤاد مخيمر
نواصل الحديث الذي بدأناه العدد الماضي حول الإبداع الإلهي في الدم، فنقول: عُمر الكريّة الحمراء: يصل عُمر الكرية الحمراء إلى 120 يومًا، وعلى ذلك فإن الكريات الحمراء في الدم تتبدَّل كلها في مدى 120 يومًا، أما عدد الكريّات التي تتجدَّد في اليوم الواحد، فيصل إلى 240 مليار كرية حمراء؛ أي: عدد ما يتجدَّد في فترة 120 يومًا يساوي (240 × 120 = 28800) مليار كرية حمراء في الدم الكامل، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، فهذه الطاقةُ الإنتاجية الهائلة لنخاعِ العظام الأحمر، هي الطاقة العادية في الظروف العادية، ولكن الجسم إذا تعرَّض لظروف غير عادية- كالنزيف وخلافه- يحتاج معها إلى ضعفِ هذه الطاقة؛ حيث وهب الله سبحانه وتعالى نخاعَ العظام طاقةً تصلُ إلى ستة أو سبعة أضعافِ طاقته العادية، إذا أصيب الإنسان بالأنيميا التي تنتج عن نقص في عدد كريات الدم الحمراء.
كذلك تتغيَّر عدد الكريات الحمراء على مرِّ اليوم، ففي أول اليوم يكون منخفضًا نوعًا ما، أما في آخره فإنه يزداد نوعًا ما، كما يزداد أثناء المجهود البدني العنيف.
2 – الصفائح الدموية: لا يزيد طول الواحدة من الصفائح على 3 مِن الألف (0,003) من الملليمتر، وتبلغ نسبتها من 150,000 إلى 400,000 ألف / ملم مكعب، ومهمَّتُها الأساسية الإسهام في تخثُّر الدم، ووقف النزيف عند حدوث جرح أو نحوه من الإصابات، فهي تُسارِع إلى الوعاء الدَّموي الذي يتسرَّب منه الدم، ثم تلتصق بجداره لتسدَّه ويتم عملية التخثُّر.
والصفيحاتُ ليست خلايا، بل هي أجزاء مفلطحة مِن السيتوبلازم، وهي ذات شكلٍ غيرِ منتظم، ولا تحتوي على نواة أو عضيات، ويتراوح عمرها من سبعة إلى عشرة أيام، فسبحان الله إن نقص عدد الصفائح الدموية يُؤدِّي إلى عدم القدرة على تصنيع جلطة دموية عند حدوث أي جرح، وبالتالي يستمر النزيف حتى الموت.
والسؤال الآن: لماذا لا يتجلّط الدم داخل الأوعية الدموية، ويتجلّط خارجها؟
الدم يتجلَّط عند حدوث جرح؛ لوجود وتحويل المادة البروتينية السائلة الموجودة في الدم، وهي الفبيرونجين إلى مادة صلبة تسمَّى الفبيرين، وهي خيوط متصلبة تتجمَّع لتمنع خروج الدم من الجلد.
أما عدم تجلُّط الدم داخل الأوعية، فيرجع إلى أن الدم يسري بصورة طبيعية في الأوعية التي هُيِّئت لذلك بنعومتها وتركيبها الخاص، وكذلك لوجودِ مادةِ الهيبارين التي يُفرِزها الكَبِد التي تقفُ عمل الصفائح الدموية.
ومِن هنا نفهَمُ أن في الدمِ عناصر تجلُّط وعناصر تميُّع، ومن توازن هذين العنصرينِ يبقى الدمُ بهذه الحالة العجيبة، فلا هو من السيولة بحيث ينزف دم الإنسان كله في وقت قصير، فيموت، ولا هو من اللزوجة بحيث يتخثَّر ويتجلط ويسد الأوعية، فهذه معادلة ربانية دقيقة بين اللزوجة والميوعة.
4 – كريّات الدم البيضاء: تبلغ نسبتها من 5 – 11 ألف/ ملم مكعب، وهي لا لون لها، وتتحرَّك في الدم بطاقةٍ ذاتية، بمعنى أنها تتحرَّك بحركة الدم، أو بعكس حركته، ومهمَّتُها الأساسية الدفاعُ عن الجسم، وتُعَد خطَّ الدفاع الأول عن الجسد، وهي في حالة تأهُّب واستعداد في صد المعتدِين؛ من الميكروبات، والجراثيم، والفيروسات، فهي تُعَد ممرضات أجسامنا ويسميها البعض (بوليس الدم)؛ لأنها تُطارِد المجرِمين بنجاح، وسبحان الله لم يستطع أحدٌ إلى الآن تحديدَ طول عمرها؛ لأن هذه الكريات جنودٌ، والجنود عامة لا تُعمَّر كثيرًا، بل تقضي نحبها أثناء القتال في سبيل الإبقاء على أجسامنا سليمةً.
وكما ذكرنا في أعداد سابقة، فإن الكريات البيضاء بمنزلة جيشِ الدفاع؛ ففيه قسم استطلاع يستطلع العدو وأسلحته وخصائصه، وقسم يصنع الأسلحة، وقسم يحارب، وقسم يمحو وينظف مكان المعركة. وكريات الدم البيضاء لا تتصارَع مع الميكروبات فحسب، بل هي مَنُوطةٌ بها وظيفةٌ أخرى مُهمَّة، وهي القضاء على جميع الخلايا التالِفة التي استُهلكت، فهي تقوم دائمًا داخل أنسجة الجسم بعمل تفكيك وتنظيف المكان لبناء خلايا جديدة للجسم.
الحكمة الطبية من تحريم أكل الدم: حرَّم الشرع أكلَ الدم؛ لأن الدم يحمِلُ فضلات وعوامل مرضية خطيرة؛ كالجراثيم، والفيروسات، والطفيليات، ولهذا يُعَد الدم وسطًا خطيرًا يُمكِن أن ينقُلَ العَدْوى إلى الآخرين، وأن تتكاثر فيه الميكروبات…، واستثنى الشرعُ مِن التحريم الكَبِدَ والطِّحالِ اللَّذينِ سمَّاهما رسول الله دمًا؛ بسبب غناهما المُفرِط بالدم، فقال: (أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان؛ فأما الميتتانِ فالحوت والجراد، وأما الدَّمَانِ فالكَبِدُ والطِّحال).
نقل الدم: أُجرِيت أولُ عمليةِ نقل دم في التاريخ عام 1667م، في فرنسا؛ حيث نقل الدم مِن شاة إلى صبي مصاب بنزيف، فنجا الصبي من الموت بتقدير الله، وتَمَّت محاولةٌ ناجحة عام 1825 م في بريطانيا من شخص إلى شخص بواسطة محقنة، واستمر الأمر هكذا بدائيًّا دون أُسس علمية صحيحة، إلى أن اكتشف العالم النمساوي – كارل لاندشتاينر – في عام 1901م أن الدم له أربعة أنواع أو مجموعات أو فصائل من دماء البشر، ورمَز لهم بالأحرف (A,B,AB,O)، وأصبح بالإمكان مطابقةُ دمِ المُعطِي مع دم الآخِذ، وتلافي حصول التنافر الدموي، وكانت أولُ عملية ناجحة بأسس علمية عام 1918 م في إنجلترا.
فوائد التبرع بالدم: 1- في التبرُّع بالدم أجرٌ كبير للمتبرع؛ لِما فيه من نفعٍ للآخرين، وقد يكون فيه إنقاذٌ لهم من الموت المُحقَّق.
2- يساعد على تنشيط نخاعِ العظام الذي يقوم بإنتاج جميع مُكوِّنات الدم، ويجدد خلايا الدم، فيعيد للجسم كلِّه النشاطَ والحيوية.
3- أثبتت الدراسات العلمية أن التبرُّع بالدم يُقلِّل مِن مخاطر حدوث النَّوبات القلبية.
4- يُسهِّل جريان الدم في الأوعية الدموية.
5- يُقوِّي الروابط الاجتماعية بين الناس.
إن بحث الدم وحدَه أكبر آيةٍ دالَّة على عظمة الله، وهذا التنسيق والتدبير داخل أجسامنا ما هو إلا إعجاز وذكرَى للبشر، وصدق ربُّ العزَّةِ: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.