د. عصمت رضوان: صيانة النصوص عن الامتهان واجب ديني وأدبي
د. سيد نجم: لونٌ من التلبيس يسيء للوحي
تحقيق: أحمد صديق
حذَّر علماء الدين من خطورة “تديين” الدعاية الانتخابية، بمعنى استغلال الدين سواء بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة، فى اللافتات الدعائية، مؤكدين أنها “تشويه للمقدَّسات”، مطالبين بضرورة إبعاد الدين عن استغلاله فى الدعاية كـ”واجب دينى وأدبي”.
حيث تنطلق خلال الأيام المقبلة، الدعاية الانتخابية لمرشَّحى مجلس النواب، وتمتلئ الشوارع والميادين باللافتات وصور المرشّحين للتعريف بهم للناخبين، ويكثر استعمال الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية في هذه الدعاية.
يؤكد د. عصمت رضوان- وكيل كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر- أنه ليس أعظم في الوجود من كلام الله، ولا أقدس في القلوب من هذا الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين على قلب النبي الكريم، ليكون هدى ونورًا للناس أجمعين. وقد أمرنا الله بتعظيم هذا الكتاب العزيز، فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: ٤].
ولذلك أجمع العلماء على وجوب تنزيه القرآن وتعظيمه، كما قال الإمام النووي: “أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق، وتنزيهه وصيانته”.
ومن تمام هذا التعظيم ألا يُتخذ القرآن وسيلة إلى حطام الدنيا، ولا يُجعل مطيّة لأغراض السياسة أو مكاسب الانتخابات. فكتاب الله لم يُنزَّل ليكون شعارًا في لوحة تُعلق في الشوارع، أو وسيلة للتأثير على العقول في صناديق الاقتراع، بل أنزل ليكون منهاجًا للإصلاح الحق، لا مطيّة للمتاجرة بالشعارات.
ابتذال للمُقدَّس!
ومن هنا ندرك أن استعمال الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية في الدعاية الانتخابية لون من ألوان الابتذال لهذا المقام المقدس؛ إذ يُجعل كلام الله وسيلة لمطمع بشري، ووسيلة للوصول إلى كرسيّ أو منصب، فيُنتزع النص من سياقه الرباني ليُغرس في أرض المصلحة والنفع الشخصي.
يتساءل د. رضوان: كم سمعنا في حملات انتخابية من يرفع شعار قوله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود: ٨٨]، وكأن المرشح هو نبيٌّ مُصلحٌ أُرسل إلى قومه! وآخر يستشهد بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: ٨٩]، وكأن الانتخابات ساحةُ قتالٍ، لا منافسة مدنية بين مواطنين في وطن واحد.
وهكذا تُنتزع الآيات من مواضعها، وتُحمّل ما لا تحتمل، فتفقد هيبتها في النفوس، وتغدو أداة دعائية لا خطابًا ربانيًا.
يضيف: إنّ هذا الاستخدام الجائر للنصوص المقدسة يُفضي إلى امتهانها، ويشوّه صورتها في أعين الناس، إذ تُتداول على الألسنة في غير موضعها، وتُرفع على لافتات لا يُراد بها وجه الله، بل وجه المنصب والجاه.
إن الله جعل القرآن كتاب هداية لا دعاية، وسنَّة نبيه منهج إصلاح لا وسيلة دعاية.
فصيانة النصوص عن الامتهان واجب ديني وأدبي، وحفظ مكانتها من التوظيف النفعي فرض عين على كل من يتقي الله.
فليتقِ اللهَ كلُّ من يخاطب وجدان الناس باسم الدين، وليعلم أن الآيات لا تُستدعى لتبرير طموحٍ بشري، وأنّ من رفع راية الدين ليبلغ بها غرض الدنيا، فقد مس قداسة الكلمة، وأضاع جلال المعنى، وابتغى بكلمات الله ثمناً قليلاً.
اختلاط مرفوض
من جانبه، يشير د.سيد نجم- من علماء الأزهر- إلى أنه حين تُستحضر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ساحات التنافس الانتخابي، دون وعيٍ بقدسيتها أو مقصدها، يختلط النور الإلهي ببريق الدعاية، ويغيب الفرق بين الدعوة إلى الحق والدعوة إلى النفس.
والرؤية المعتدلة في هذا الباب تقوم على ميزانٍ دقيقٍ من الفقه والوعي؛ فهي لا ترفض ذكر النصوص الشرعية في الخطاب العام رفضًا مطلقًا، ولا تُجيزه على إطلاقه. فمتى كان الاستشهاد بالقرآن والسنّة تذكيرًا بالقيم العليا التي أرادها الله لعباده؛ كالعدل، الرحمة، الأمانة، الإخلاص، خدمة الناس، مع حفظ جلال النص وعدم نسبته إلى شخصٍ أو جهةٍ بعينها، فهو استلهامٌ راقٍ يربط العمل الميداني بروح الإيمان، ويغرس في النفوس أن القيم الربانية لا تنفصل عن واقع الأمة.
يضيف: أما إذا جُعلت الآيات والأحاديث أدواتٍ للترويج الشخصي، أو لتزيين صورةٍ بشريةٍ بمسوحٍ دينية، أو لإيهام الناس بأن المرشّح وحده المعبّر عن الدين، فذلك لونٌ من التلبيس يسيء إلى الوحي ويغشّ الناس في عقولهم وقلوبهم. إن النصوص المقدسة ليست وسيلةً للظهور، بل منارٌ للهداية، ورفعها في الميادين لا يجوز إلا بصدقٍ يُترجم إلى فعلٍ وسلوكٍ يوافق روحها. فالدين أعظم من أن يُختزل في شعار، والوحي أسمى من أن يُستعمل في دعاية، ومن أراد أن يعبّر عن صدق التزامه فليجعل خُلق القرآن منهجًا، لا شعارًا، وسلوك النبي طريقًا، لا لافتة.