لا نصدق أن الرئيس دونالد ترامب المتقلب تحول فجأة إلى رجل سلام يعمل لإيقاف العدوان على غزة بعد عامين من حرب التجويع والتدمير والتطهير العرقي، وهو الذي كان يعد العدة لإخراج أهلها منها وتحويلها إلى ريفييرا الشرق كمشروع عقاري دولي طموح، ولا نصدق أن ترامب رقَّ قلبه فجأة للشعب الفلسطيني فأعلن مبادرته لإيقاف الحرب وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار ورفض التهجير ومنع ضم الضفة، بعد أن كان يقف على خط النار الأول إلى جانب نتنياهو، ويهدد حماس وغزة والمنطقة كلها بالجحيم، ودفعت بلاده أكثر من 22 مليار دولار مساعدة عسكرية لإسرائيل، واستخدمت الفيتو 6 مرات في مجلس الأمن منذ أكتوبر 2023 لإحباط أي مشروع يتعلق بوقف الحرب وفتح مسارات إنسانية لإدخال المعونات وإنقاذ أهل غزة من الموت جوعا وعطشا.
سيقول البعض إن تطلع ترامب إلى جائزة نوبل للسلام كان الدافع الأهم للمبادرة، ويقول آخرون بل رغبته في الحصول على الأسرى الإسرائيليين ليظهر في صورة البطل المخلص لشعب إسرائيل، وذانك سببان مهمان لا يمكن تخطيهما، لكن الدافع الأهم في الحقيقة هو رغبته في إنقاذ إسرائيل من نفسها، بعد أن ارتفعت خسائرها المادية في الحرب (100 مليار دولارعلى الأقل)، وتضاعفت خسائرها البشرية (أكثر من 15 ألف قتيل وجريح)، وتكاثرت الصراعات والانقسامات الداخلية فيها؛ العسكريون في مواجهة السياسيين، والمتدينون في مواجهة العلمانيين، ومظاهرات أهالي الأسرى والمجندين لا تتوقف، وأعداد جنود الاحتياط المتهربين والمنتحرين والمرضى النفسيين تتزايد (أكثر من عشرة آلاف جندي)، ومعدلات الهجرة العكسية إلى خارج إسرائيل في تصاعد مستمر.
ونشرت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الأسبوع الماضي إحصائية توضح أنه منذ انطلاق طوفان الأقصى أكتوبر 2023 تمت إقالة قيادات جميع أجهزة الأمن والمخابرات وكبار جنرالات الجيش ووزير الدفاع ورئيس الأركان، ولم يبق في مكانه سوى نتنياهو.
يضاف إلى ذلك انقلاب الرأي العام العالمي على إسرائيل التي سقطت أخلاقيا وظهر كذب سرديتها، وبرزت سردية حقيقية تدحضها وتهز أركانها، فخرجت الشعوب الحرة في كل أنحاء العالم تهتف بالحرية لفلسطين، واعترفت 157 دولة بدولة فلسطين، مما أكد عزلة إسرائيل وأمريكا معا، واعترف ترامب بذلك صراحة حين قال لنتنياهو: “إسرائيل لا يمكن أن تحارب العالم أجمع، وأنت يا بيبي لا يمكن أن تحارب العالم”.
ومن منطلق الوصاية الأمريكية على إسرائيل رأى ترامب أن يتدخل بقوة لإنقاذ نتنياهو نفسه من دوامات الفشل التي سقط فيها، فقد وعد مرات عديدة بتحقيق النصر المطلق والسيطرة الكاملة على غزة وهزيمة حماس وإجبارها على الاستسلام وإطلاق سراح الأسرى بقوة السلاح دون شروط، لكن الحرب طالت لعامين (720 يوما) دون أن يحقق شيئا من ذلك، وما نجح فيه فقط هو تدمير المدن وقصف المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، وقتل المدنيين العزل، وتلك جرائم حرب صار بسببها مطلوبا للعدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأصبحت إسرائيل مطلوبة أيضا أمام محكمة العدل الدولية، وهو ما لم يحدث في أي حرب سابقة خاضتها إسرائيل.
يقينا لم تنتصر إسرائيل لأنها لم تحقق أهدافها، ولم تنهزم المقاومة رغم الثمن الفادح الذي دفعته، لأنها حققت جانبا كبيرا من أهداف الشهيد يحيى السنوار قائد عملية طوفان الأقصى، الذي أراد أن يضع الاحتلال أمام خيارين: “إما أن نرغمه على تطبيق القانون الدولى واحترام القرارات الدولية، أو نجعله في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية، ونعزله عزلا شديدا عنيفا، وننهي حالة اندماجه في المنطقة العربية الإسلامية وفي العالم كله”.
وكان صمود أهل غزة وبسالة المقاومة هما الصخرة التي تحطم عليها غرور نتنياهو واليمين المتعجرف والتكتل الغربي، ولم تكن إسرائيل لتوقع على اتفاق مع المقاومة برعاية ترامب ووساطة مصر وقطر وتركيا إلا لأن لدى المقاومة ما تضعه على الطاولة وتفاوض عليه وتبادل به، لتثبت أنها لم تنكسر، ولم تنهزم، بل تعادلت على الأقل، وظلت إرادتها صلبة لآخر دقيقة، وشهد لها ترامب بقوله: “إن قادة حماس أقوياء جدا وأذكياء ومفاوضون بارعون، واتفاقهم مع إسرائيل سيصمد لأن الطرفين تعبا من القتال”.
دع عنك هراء من يهاجمون المقاومة وينتقصون من قدرها، فهؤلاء لا يعرفون معنى الدفاع عن الكرامة الوطنية، وقل: سلام عليك يا غزة، وعلى أهلك وشهدائك وجرحاك وأسراك وأبطالك العظام.