بقلم / أ.د. علي مطاوع
الأستاذ بجامعة الأزهر
في وصية النبيّ ( صلّى الله عليه وسلّم ) الخالدة لابن عمّه عبدالله بن عباس (رضي الله عنهما) ،قال: ” إذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ،وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ،وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ،وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ،رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ” رواه الترمذي ،وقال :حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وهذه الوصية المحمّدية الخالة ،قد وضع فيها مُعلّم الأمة ؛من أوتِيَ جوامع الكَلِم (صلّى الله عليه وسلّم) ،أُسُس الإسلام الصحيح ،الذي يأخذ بيد العبد المسلم إلى طريق ربّ العباد سبحانه ،لا طريق العباد الذين لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا لأنفسهم ولا لغيرهم ،يُرسّخ مُعلّم الإنسانية هذا الهَدْي المُنير للأمّة في شخص ترجمان القرآن ابن عبّاس مؤكدًا أنّ بابًا واحدًا هو من يقف العباد على عتباته ،لاجئين .. مستغيثين ..لا ئذين .. فارين إلى مَنْ أوجدهم عزّ وجلّ ؛ الله الواحد الأحد ،طامعين في عفوه ..وكرمه.. وفضله ..وسِتره ..وخيره ، يسألونه وحده دون سواه ،يسألون الرّزاق صاحب القوة المتين سبحانه ،يسألونه الرزق ..والفرج.. والنُّصرة ،يسألونه دون سواه ، النجاح والفلاح والرفعة والتوفيق ، والمنصب والجاه والدرجات العلى ،يسألونه ذهاب الغم والهمّ ، وإحلال البركة في المال ،والأهل ،والولد ، كل هذا وأكثر نطلبه من الخالق الأعظم سبحانه وتعالى ،خاصة بعد أن رسخ في قلوبنا هَدي النبي ( صلّى الله عليه وسلّم ) وتوجيهه لابن عبّاس ولكل صاحب مسألة ،أو مظلمة ،أو مسغبة ، ” إذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ” ، ففي الدعاء يظهر الذل والفاقة والافتقار والحاجة والعجز من السائل للمسئول.. وهي اعتراف من السائل بالعز والعلم والغنى والقدرة والسلطان للمسئول ،وهو عين العبودية وقمة الافتقار؛ولهذا كان الإمام أحمد يدعو ويقول: ” اللهم كما صُنت وجهي عن السجودِ لغيرك ،فَصُنْه عن المسألة لغيرك ،ولا يَقْدِرُ على كشفِ الضُرِّ وجلبِ النفعِ سِواكَ ” يا ألله .
فحين يتأخر عليك الرزق ،وتتعسر أحوالك بين أهلك ،ويُعرِضُ عنك اليسر ،وتضيق بك الأمور ،وتشتد بك الخطوب ،وتتنزّل عليك المحن والدواهي ،وتُبكيك الدنيا حتّى استحكمت حلقاتها ،فلا تقف بباب عبدٍ مثلك فتُذَل ،وتُغضِب من أعزّك سبحانه ،واسأله في عليائه ،فهو جلّت قدرته الذي لن تنفد خزائنه ،ورحمته قد وسعت كلّ مخلوق في هذا الوجود ،واصبر واجأر بالدعاء ،وقل من أعمق أعماقك ياألله ،فمنه وحده العون والمدد والفرج ،واستحضر جزاء مَنْ صبر وآمن بابتلائه الذي جاء في قوله تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } البقرة : آية (155) .
وحين تتبدل الحقائق ويعلو صوت الباطل ويسود ،وينزوي الحق ويُحاصر، بل ويتراجع صوته ويُبحّ ،حين يحدث ذلك فيضيق له صدرك، وتلتاع له نفسك ، وتنتكس الفِطَر أمام ناظريك ،ويُهزأ بالقيم على يد السوقة من جُهّال العوام ،وتُحارب الفضائل ،وتمتدح الرذائل من مُدّعي الوصول والحلول ،ويتكالب الناس – الذين يقفون اليوم على شفا جُرفٍ هارٍ رُكّعًا سُجّدًا – على أهل البِدَع والسفور والفجور ،من الذين يسخرون ويستخفون بأهل الدين الحقّ ، فقل يا ألله.. ياألله ، ” وناجِ الَّذي في منَاجاتِهِ ** خَلاصُكَ ،وَاسْجُدْ لَه وَاقْتَرِب ” سبحانه وتعالى أهل العون والمدد فلا مخرج ولا ملجأ إلا في الوقوف على بابه وحده سبحانه ،واعلم علم اليقين أنه {… مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ }الحديد ،من الآية : (٤) ،حينها تستحقّ {… نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ } سورة ص: من الآية ( ٣٠) .
يُعَلِّمُ النبيُّ ( صلّى الله عليه وسلّم ) ابن عباس ،ويعلم الأمة أن الدعاء نعمة كبرى ،ومنحة عظمى، تفضل الله بها على عباده ،وجاد بها عليهم ،فأمرهم به وحثهم عليه ،ووعدهم الإجابة وعلَّقها به، وسيَّرها في ركابه؛ فمتى وُجِد الدعاء فالإجابة معه، قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة: (١٨٦) ،وقال سبحانه:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }غافر : ( ٦٠) ،ولذلك كان أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) يقول: ” إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكني أحمل هَمّ الدعاء ” .
فالموفق من وفقه الله للدعاء، وفتح عليه أبوابه، ويسر له سبله وأسبابه، ووجه قلبه إليه، وحرك لسانه به، فالخلق كلهم محتاجون إلى الدعاء أشد من حاجتهم للهواء، مفتقرون إليه سبحانه ،لا غنى لأحدهم عنه طرفة عين ، فصاحب الحاجة إذا أراد أن يسأل ألا يسأل إلا الله ،وألا يعلق قلبه بسواه ،: فكُل الخلائق فقراء إلى الله ،{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ فاطر: (١٥) ،ذلك أن الدعاء عبادة ،والعبادة لا ينبغي أن تصرف إلا لله . فعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول على المنبر: ” الدُّعاءُ هو العبادةُ ” ثمَّ قرأ { وَقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} غافر:(60) ،أعاذنا الله من هذا المنقلب ،وجعلنا ممّن يقفون ببابه سبحانه ،ومِمّن لا يسألون إلّاهو عزّ وجلّ ،فمصائرالعباد بيديه ،والكون كله خاضع لقدرته وعظمته ،وصدق الحبيب المصطفى مُعلّم الإنسانية في هَدْيه :” وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ}.