إيهاب نافع
تعد قمة شرم الشيخ تحولاً سياسياً وإنسانياً مركزياً، ليس فقط فيما يخص أزمة غزة، بل تخطاها ليصبح صيحة سلام تدوي في العالم إنطلاقا من مصر، تنهي أزمات مفتوحة في 7 جبهات بفعل إسرائيل في الشرق الأوسط.
كما أنها تفتح آفاقا جديدة لاستثمار أمثل لعمق الصلات بين مصر ومراكز القرار العالمي من واشنطن إلى باريس ولندن، إلى موسكو وطهران، وكذا بكين وأنقرة، فضلا عن الخليج العربي، إذ تسعى مصر لمواصلة جهودها للتسوية السلمية للملفات الساخنة في الشرق الأوسط والتي تمثّل أولوية رئيسة لها في الوقت الراهن، لتبني في ذلك على الفهم المصري العميق للأسباب الرئيسية لتلك الإشكاليات، وثمة العديد من الشواهد التي تبرز دور مصر في صناعة سلام حقيقي في الشرق الأوسط إنطلاقا من تلك الحالة التي خلقتها قمة شرم الشيخ، وقُدرة مصر على فك طلاسم تلك الاشكاليات بناء على فهم عميق لأبعادها وأسبابها الحقيقية .
ترجمت مصر بالفعل بعد ساعات من قمة شرم الشيخ تلك الحالة عبر البدء الفعلي في مسارات عديدة لحل أزمات المنطقة.
ففي ملف غزة دعمت مصر استضافة المشاورات التي أفضت إلى تنفيذ خطة ترامب للسلام ببنودها العشرين، كما أضافت لتفاصيلها ترتيبات ضمنية تقام مساعي تل أبيب لعرقلة الاتفاق، إذ استدعت حالة عالمية وضمانة دولية للاتفاق تخطت حاجز الثلاثين دولة الكبرى التي حضر قادتها التوقيع على اتفاق الضامنين الأساسيين مصر وأمريكا وتركيا وقطر، بما يزيد من ثقة العالم في مزيد من التضامن مع عدالة القضية الفلسطينية إجمالاً من حيث ضمان دعم دولي واسع لمزيد من الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وكذلك مزيد من الدعم لوقف إطلاق النار وتثبيته وإثناء تل أبيب عن خرقه، وكذلك دعم مسارات إعادة إعمار غزة، واستصدار قرارات أممية مرتبطة بترتيب وجود قوات دولية تحت مظلة أممية بما يجعل الاتفاق برمته تحت مظلة الأمم المتحدة، إلى جانب تشكيل موقف دولي وحالة من الوعي السياسي الواسع بالقضية وأبعادها بما يؤثر في الخطاب السياسي والإعلامي لتلك الدول بشكل أساسي حيال القضية، وهو في ذاته ستكون له انعكاسات إيجابية قوية حيال التفاعل الدولي من كثير من حقوق الشعب الفلسطيني في كل مكان.
التوافق الفصائلي
القاهرة ترجمت ذلك أيضاً في مواصلة مساعيها لتشكيل حالة من التوافق الفصائلي بين حماس وبقية الفصائل الفلسطينية وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة بهدف تشكيل رأي فلسطيني موحد في مواجهة التحديات والعراقيل التي من المتوقع أن تضعها تل أبيب في طريق صناعة السلام الدائم، إذ ستستضيف مؤتمراً للفصائل الفلسطينية خلال أيام، ليخرج قرار السلام من كونه قرار لقادة حماس وحدها إلى قرار لكافة الفصائل الفلسطينية بالتعاون مع السلطة .
التأمين الداخلي
القاهرة كذلك ترجمت مساعيها لإقرار السلام من خلال تدريب وتجهيز 5 آلاف عنصر شرطة وأمن فلسطيني لتولي عملية التأمين الداخلي في غزة وكان من بين أبرز المهام تكليف العشرات من تلك العناصر لتكوين خطة تأمين معبر رفح من الجانب الفلسطيني لتيسير عمله في المرحلة المقبلة.
وفي سياقات متصلة وفي إطار حالة اتفاق شرم الشيخ، وبالقرب من موعد افتتاح مصر العالمي بحضور عدد من قادة الدول لمتحف مصر الكبير أول نوفمبر المقبل، من المنتظر أن تعظم توظيف الحدث لصالح صناعة مزيد من السلام والأمن والاستقرار والتنمية في منطقة الشرق الأوسط.
سد النهضة
ومن أزمة غزة إلى أزمة سد النهضة القضية المؤرقة لكامل الشعب المصري، تبدو واشنطن مهتمة بجدية بإنهائها بشكل كبير دعمته تلك الحالة المصرية التي خلقها اتفاق شرم الشيخ، والقدرة على التعاون معا لوقف الخلافات والتوصل لحل عادل ودائم لكافة الأطراف، وهو الأمر الذي استدعى تنسيقا مصرياً سودانيا، وهو ما مثل هدفاً رئيسيا لزيارة الرئيس السوداني عبدالفتاح البرهان لمصر بعد أيام قليلة من قمة شرم الشيخ، وهو ما تزامن مع تصريحات هامة لـ”مسعد بولس، مستشار ترامب لشئون أفريقيا”، تحدث فيها عن تسوية سياسية لأزمة سد النهضة وكذلك تسوية سياسية لأزمة السودان لوقف إطلاق النار والنزاع القائم منذ سنوات، وهو الأمر الذي تدفع القاهرة “البرهان” للتفاعل الإيجابي معه بما يضمن حقوق الشعب السوداني وينهي فصلا مأساويا في تاريخ البلاد.
إيران والعالم
إن القاهرة وهي تنهي أزمة غزة تبقي عينا أيضاً على طهران، وتجدُّد التوتر الواسع بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وكانت مصر بتوجيهها الدعوة للرئيس الإيراني لحضور قمة شرم الشيخ تسعى لتحقيق عدة أهداف مجتمعة، وهي أن تبقي إيران ضامنة للاتفاق لوقف إطلاق النار والتهدئة الشاملة في المنطقة، بحيث توجه أذرعها التي أشعلت المنطقة في حرب بالإنابة مع تل أبيب، بما يضمن صمود اتفاق غزة ونزع الفتيل المعرّض للاشتعال مجددا في اي وقت على الجبهات في لبنان مع حزب الله، واليمن مع الحوثيين، وحتى مع الحشد الشعبي في العراق.
كما سعت القاهرة للتوصل لحالة من التوافق بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما نجحت فيه مصر من قبل لكن تعقّد الموقف مع الجانب الأوروبي عقَّد الأمور من جديد، لكن القاهرة ستبذل جهدا مضنيا في إطار حالة شرم الشيخ للتركيز من جديد في الحل للأزمة الإيرانية على الجبهات كافة، وهي إشكالية تواجه صعوبات داخلية في إيران ربما أكثر تأثيراً منها دولياً، وربما كان ذلك سبباً في غياب الرئيس الإيراني عن قمة شرم الشيخ، رغم مناشدات من كبار السياسيين والمفكرين للرئيس ألا يفوّت الفرصة لكنها كانت أصواتاً لم يُستمع لها بفعل “الملالي”.
حصد الثمار
إن مصر لتحصد ثمار ما غرست وقدمت من جهد مخلص صادق قوي حكيم رشيد في التعامل مع الأزمات الساخنة في المنطقة فجعلت السلام خيارها دون أن تلقي السلاح من أجندتها، فجعلت السلام مبنيا على القوة والحضور العسكري الذي مثل قوة ردع ساهمت في صناعة السلام، فالأطراف الدولية ما كانت لتحترم وتقدّر الدور المصري لولا تلويح مصر الدائم بأن الخيار العسكري حاضر على الطاولة في التعامل مع الأزمة حال استحالت صناعة السلام والشراكة فيه، فمصر صنعت في شرم الشيخ سلام الشجعان المنتصرين لا خضوع فيه لأحد ولا منّة فيه من أحد، فالسلام لابد له من قوة تحميه، وهذا نهج مصر وديدن رجالها المخلصين.