أطروحات فكرية.. تحتاج لترجمة واقعية
بقلم: إسراء طلعت
يمثّل المفكّر والعالم الأزهري الجليل د. أسامة الأزهري- وزير الأوقاف- أحد أبرز رموز الخطاب الديني المستنير في مصر والعالم العربي، فهو صاحب مشروع فكري يقوم على إعادة بناء الوعي الديني وفق منهج علمي رصين، يربط بين أصالة التراث وروح العصر، ويهدف إلى إحياء منهج الفهم المقاصدي والوسطية الواعية التي توازن بين الثوابت والمتغيرات.
إلا أن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه على الساحة هو: كيف يمكن أن يصل هذا الفكر العميق إلى المواطن العادي في الشارع؟ وكيف نضمن أن تتحول رؤى د. الأزهري من أطروحات فكرية إلى واقع ملموس يعيشه الناس في بيوتهم ومساجدهم ومجتمعاتهم؟
التجارب السابقة
إن التجارب أثبتت أن الفكر، مهما بلغت قوته، يفقد تأثيره إذا لم يجد قناة حقيقية توصله إلى الجمهور، ومن هنا تأتي أهمية أن يتجدد اللقاء بين د. الأزهري وجموع الأئمة والدعاة في المحافظات المختلفة، من خلال لقاءات موسعة تُعقد في كل مديرية، تناقش فيها القضايا الميدانية، وتترجم الأفكار الكبرى إلى رسائل عملية بسيطة يستطيع الإمام أن يقدّمها للمصلّين على المنبر أو في الدروس اليومية، فالاحتكاك المباشر بين العالِم والميدان هو الوسيلة الأنجع لبناء وعي جماعي مستنير، حيث يصبح كل إمام ناقلا أمينا للفكر الأزهري في مجتمعه المحلي.
إن هذه اللقاءات لا تقتصر على نقل المعلومة، بل تبني روح الانتماء للمنهج الأزهري، وتؤسس لشبكة تواصل حيّة تضمن أن يصل الفكر الديني الصحيح إلى الناس بلغتهم وواقعهم.
“صحح مفاهيمك”.. مبادرة ثرية تحتاج إلى قياس أثر
ضمن سلسلة المبادرات الدعوية والفكرية التي أطلقتها وزارة الأوقاف تحت إشراف د. أسامة الأزهري، تبرز مبادرة «صحح مفاهيمك» التي حملت منذ انطلاقها رسالة شريفة لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي علقت بالأذهان نتيجة الفوضى الفكرية التي اجتاحت المجتمع في العقود الأخيرة.
جاءت المبادرة في وقت حساس، ففتحت باب الوعي أمام الناس، وقدمت معالجة علمية مبسطة لقضايا شائكة مثل مفهوم الجهاد، والحاكمية، والولاء والبراء، وغيرها من المفاهيم التي شوَّهها الخطاب المتشدد. غير أن الواقع يشير إلى أن المبادرة، رغم ثرائها وقيمتها الكبيرة، بحاجة إلى تجديد في آليات التنفيذ والتقييم، بعد أن تداخلت الموضوعات وتشعَّبت القضايا إلى حد جعل الأثر المباشر للمحتوى أقل وضوحا لدى الجمهور.
وهنا يبرز سؤال مهم لا بد من طرحه: هل هناك آلية واضحة لقياس أثر كل موضوع يتم طرحه ضمن المبادرة؟ خاصة أن غياب التقييم الميداني يجعل الجهد العلمي لا يحقق أقصى مردوده. فالتجديد لا يكون فقط في اختيار الموضوعات، بل في متابعة نتائجها، ومدى انعكاسها على سلوك الناس وأفكارهم.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء وحدة لقياس الأثر داخل الوزارة، تجري استطلاعات رأي دورية، وتقيس تفاعل المواطنين مع الرسائل المطروحة، وتقدم تغذية راجعة تساعد في تطوير المحتوى وإعادة توجيهه نحو ما يحقق الهدف الأسمى: تكوين وعي ديني مستقر ومؤثر في السلوك المجتمعي.
مشروع الكشف عن نوابغ الأئمة وتأهيلهم
ومن بين المشروعات الواعدة التي يوليها د. الأزهري اهتمامًا خاصًا، يأتي مشروع الكشف عن نوابغ الأئمة وتأهيلهم علميًا وفكريًا ومهاريًا، وهو أحد أبرز مسارات تطوير المنظومة الدعوية في مصر، فالفكر الأزهري لا يقتصر على الخطاب الموجَّه للناس فقط، بل يمتد إلى بناء الداعية نفسه، باعتباره حجر الزاوية في عملية الوعي.
ويهدف المشروع إلى اكتشاف الكفاءات المتميزة من الأئمة في مختلف المحافظات، وإتاحة برامج تدريبية نوعية لهم، تشمل مهارات التواصل، وفنون الإلقاء، والإدارة الفكرية للنقاش، إضافة إلى برامج متقدمة في العلوم الشرعية والإنسانية، ليكون الإمام نموذجا للعالِم الواعي القادر على فهم الناس والتفاعل مع قضاياهم.
إن هذا المشروع يمثّل استثمارا حقيقيا في الإنسان، ويرسم طريقًا لإعداد جيل جديد من الأئمة يجمع بين العلم العميق والحضور المجتمعي الفاعل، وهو ما يضمن وصول الفكر الأزهري إلى الشارع بأدوات معاصرة ومؤثرة.
تحسين أحوال خطباء المكافأة
ولأن النهضة الفكرية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية، فقد أولى د. الأزهري اهتماما كبيرا بملف تحسين أحوال خطباء المكافأة، الذين يشكّلون ركيزة أساسية في المنظومة الدعوية بالمناطق الريفية والشعبية.
فقد طرح مشروعات تهدف إلى دمجهم تدريجيا في منظومة الأوقاف، وتوفير تدريب دوري لهم، مع تحسين الأجور والحوافز بما يليق بجهودهم ورسالتهم، ليؤدي الخطيب دوره الدعوي وهو مطمئن ومستقر نفسيًا وماديًا.
إن دعم هؤلاء الخطباء ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية، فاستقرارهم يعني استقرار المنبر، والمنبر هو البوابة التي يصل منها فكر الأزهري المستنير إلى جمهور الناس في القُرى والنجوع، حيث تتشكَّل المعتقدات والسلوكيات اليومية.
«عودة الكتاتيب».. متى ترى النور؟
ومن بين المبادرات التي تحظى باهتمام كبير في مشروع د. الأزهري مبادرة “عودة الكتاتيب”، التي تستهدف إعادة بناء الإنسان المصري من جذوره عبر منظومة تربوية متكاملة تجمع بين العلم والإيمان والأخلاق.
فالكتاتيب كانت على مدار قرون مدرسة القيم الأولى في المجتمع، خرجت منها أجيال من العلماء والوطنيين وحملة القرآن، وشكَّلت الضمير الجمعي للأمّة المصرية.
لكن العودة إليها اليوم لا تعني تكرار الشكل القديم، وإنما استعادة الروح بأسلوب جديد يواكب تحديات الحاضر.
ويرى متخصصون في الشأن الدعوي أن المبادرة يمكن أن تنجح إذا طُرحت بآليات حديثة، تجعل من الكتاتيب مراكز تعليم متطورة تعتمد على الوسائل الرقمية والتربوية الحديثة، بحيث يدمج فيها تعليم القرآن الكريم مع تنمية المهارات، وتعزيز القيم السلوكية، وغرس روح الانتماء للوطن.
كما يمكن أن تدار المبادرة من خلال شراكة بين الأزهر والأوقاف والتربية والتعليم، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني، لتكون تجربة وطنية متكاملة تهدف إلى بناء جيل جديد يتربَّى على الوعي، ويمتلك أدوات التفكير السليم منذ طفولته.
فعودة الكتاتيب ليست مجرد مشروع تربوي، بل خطوة استراتيجية لإعادة تشكيل الوجدان المصري على أسس من النور والعلم والرحمة.
ولكي نصل إلى فكر ديني حي ومتجدد، فإن مشروع د. الأزهري ليس مجرد مبادرات متفرقة، بل رؤية متكاملة لبناء وعي الأمة. ولعل الخطوة القادمة التي ينتظرها كثيرون هي، تحويل هذا الفكر إلى منظومة متصلة الحلقات، تربط بين العالِم والميدان، بين الفكر والتطبيق، وبين المسجد والمجتمع.
فاللقاءات الميدانية، وإحياء الكتاتيب بروح عصرية، واكتشاف النوابغ وتأهيلهم، وتحسين أوضاع الخطباء، وتفعيل قياس الأثر في المبادرات الدعوية، كلها أدوات تصبُّ في هدف واحد: أن يصل النور الأزهري إلى كل بيت وكل عقل وكل قلب في مصر.
فبلا شك، إن الفكر حين يترجم إلى فعل، ويلامس واقع الناس، يصبح قوة تغيير حقيقية، وهذا هو التحدي الذي يتصدى له د. الأزهري اليوم، واضعا أمامه هدفا واحدا أن تبقى مصر منارة للعلم والدين، عنوانا للوسطية والرحمة والوعي.