الإسلام في جوهره، دين بناء وعمل، لا يعرف الجمود ولا التكرار العقيم، بل يدعو إلى إقامة العمران في الأرض وخدمة الإنسان، لأن العبادة الحقة لا تقتصر على الصلاة في المسجد، بل تمتد إلى كل عمل نافع يقصد به وجه الله. لذلك يخطئ من يظن أن العبادة في الإسلام تنحصر في الصلاة والصوم والزكاة والحج فقط، فالله تعالى يقول في كتابه الكريم:
“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات: 56).
والعبادة في معناها الواسع هي كل عمل يقصد به الإنسان وجه الله وينفع به نفسه أو مجتمعه. فبناء مدرسة تُخرج جيلًا متعلمًا، أو مستشفى يُنقذ الأرواح، أو دار رعاية تحفظ كرامة كبار السن والأيتام، هو عبادة لا تقل أجرًا عن بناء مسجد. بل قد تكون أولى، إذا وُجدت المساجد بالفعل وأُهملت الحاجات الضرورية .
صحيح ان الإسلام شجع على بناء المساجد لأنها بيوت الله، ولكنّه في الوقت ذاته نهى عن الإسراف والمغالاة. قال تعالى: “يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنّه لا يحب المسرفين.” (الأعراف: 31).
فإذا كان الله لا يحب الإسراف في الطعام والشراب، فكيف بالإنفاق في بناء مساجد متكررة لا حاجة إليها، بينما يعاني الناس في الحي نفسه من مدرسة آيلة للسقوط أو مستشفى بلا طبيب؟
إن المبالغة في التنافس على بناء المساجد أحيانًا تتحول إلى مظهر من مظاهر التدين الشكلي، بينما يُهمل جوهر الدين القائم على الرحمة والتكافل والعلم والعمل. فالمسجد الذي يعلو جدرانه الرخام والزخارف لا قيمة له إن كان الفقراء حوله يئنّون من الجوع والمرض والجهل.
ومن القضايا المؤلمة التي باتت ظاهرة في بعض المدن والقرى، أن كثرة المساجد الصغيرة فرّقت المصلين بدل أن توحّدهم، خصوصًا في صلاة الجمعة.
فبدل أن يجتمع أهل الحي في مسجد جامع واحد، صار كل شارع أو عائلة أو مجموعة تبني مسجدًا خاصًا بها، يختلف إمامه عن الآخر، ويتباين خطابه، وقد يشتد الخلاف حتى في المسائل الفرعية. وهذا يخالف روح الإسلام التي تدعو إلى وحدة الصف وجمع الكلمة.
كما أن النبي- عليه الصلاة والسلام- لم يسمح في المدينة المنورة، في بدايات الدعوة، بتعدد الجُمع إلا عند الحاجة البالغة، حفاظًا على وحدة المسلمين في الخطبة والدعاء والفكر.
واليوم، حين نجد في الحي الواحد خمسين مسجدًا، قد يُصلي في كلٍّ منها عشرات فقط، ندرك أننا خالفنا المقصد الشرعي الذي أراده الإسلام من صلاة الجماعة والجمعة، وهو توحيد الكلمة وإحياء روح الجماعة.
إن بناء مدرسة أو مستشفى أو دار أيتام ليس عملًا دنيويًا بحتًا، بل هو عبادة خالصة لله إذا نُوي بها وجه الله، لأنها تحقق مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعقل والنسل.
المدرسة تحفظ العقل، وهو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة لصونها. فبالعلم تُبنى الأوطان، ويُحصن الشباب من التطرف والجهل، وتزدهر المجتمعات بالابتكار والمعرفة.
المستشفى تحفظ النفس، وهي أغلى ما أمر الله بحفظه.
فكل طبيب يعالج، ومهندس يبني مستشفى، ومتصدق يموّل علاجًا، جميعهم في عبادة عظيمة.
والشرع لا يمنع من بناء المساجد، بل يحث عليه، ولكنّه يقرّر أن الأولوية تُعطى للأهم فالأهم. فحين تُسد حاجات العبادة الأساسية بمسجد أو مسجدين في الحي، تكون الأولوية بعد ذلك لما يرفع مستوى المعيشة ويحفظ الأرواح والعقول.
إننا بحاجة إلى تجديد مفهوم الصدقة الجارية في الوعي العام، فليست الصدقة الجارية محصورة في بناء المساجد فحسب، بل تشمل كل مشروع نافع مستمر الأثر. فمن يبني مستشفى يعالج الفقراء، أو مدرسة تُخرج علماء وأطباء، أو دار أيتام تحفظ إنسانية الصغار، فقد قدّم صدقة جارية عظيمة.
ما نحتاجه ليس التوقف عن بناء المساجد، بل تحقيق توازن رشيد بين ما يخدم الروح وما يخدم الجسد والعقل. فالمسجد موضع للعبادة والتربية، والمدرسة مصنع للعقول، والمستشفى مأوى للأجساد، ودور الرعاية حصن للضعفاء. وكلها حلقات في سلسلة واحدة اسمها “بناء الإنسان.”
إنّ بناء المساجد عمل عظيم ما دام في موضعه، ولكنّ الإسلام دين واقعي، لا يقف عند المظاهر بل ينظر إلى المصلحة العامة. فالعبادة الحقيقية أن نبني الإنسان قبل البنيان، وأن نحفظ الأرواح والعقول قبل أن نزيّن الجدران.
لقد آن الأوان لأن نعيد ترتيب أولوياتنا، فنفهم أن بناء مدرسة أو مستشفى أو دار رعاية قد يفتح أبواب الجنة كما يفتحها بناء مسجد، بل ربما أعظم أجرًا إن كانت الحاجة إليه أشد.
فالله تعالى لا ينظر إلى عدد المآذن، بل إلى عدد القلوب التي خُفّف عنها الألم، والأرواح التي أُنقذت، والعقول التي أنارت طريق الأمة.



























