إلى حد ما انتهت حرب الإبادة على غزة بخطة الرئيس دونالد ترامب، لكن لم ينته النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال حتى يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه الوطنية المشروعة التي أقرَّتها الأمم المتحدة، ورغم محاولات ترامب وحليفه نتنياهو اصطناع نصر كاذب لإسرائيل في هذه الجولة فإن الحقيقة الساطعة تؤكد فشلهما معا في تحقيق أهم أهداف الحرب وهو التهجير القسري والتطهير العِرقي وفرض الاحتلال والاستيطان على قطاع غزة بالكامل.
لقد بذلت أمريكا أموالا طائلة لإسرائيل، وأرسلت إليها أحدث الأسلحة وأشدّها فتكًا على مدى عامي الحرب، لكي تضمن استسلام المقاومة استسلاما تاما، لكن هذا لم يحدث، وظلت المقاومة والشعب الفلسطيني صامدا وثابتا على الحق، حتى تدخل ترامب بخطته لوقف الحرب إنقاذا لإسرائيل من نفسها، بعد أن أكدت تقارير العسكريين الإسرائيليين والأمريكيين أن الحرب تحولت إلى استنزاف لجيش الاحتلال، ولم تعد هناك أهداف قابلة للتحقق، وأن دائرة المؤيدين للحق الفلسطيني تتسع في العالم، بينما تعاني إسرائيل عزلة دولية خانقة لم يسبق لها مثيل.
وجاءت خطة ترامب على قدر فهمه وانحيازه وطريقة تفكيره، فهو رجل صفقات يهتم بالعناوين و(اللَّقطة) دون أي اهتمام بإحقاق الحقوق، وليس رجل سلام وحل عادل وشامل كما يدّعي، وهو رجل غشوم شوفيني فاشي، لا يرى غير القوة والثراء، ولا يسمع غير الإطراء والمديح، ومن ثم فإن خطته لم تكن معنية بتحقيق السلام المستدام الذي يكفل حق تقرير المصير للشعب الفسطيني وقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الصراع القديم المتجدد في المنطقة، وإنما بنيت على مفاهيم منحازة وجائرة تنسف أسس السلام العادل، وتمهد لجولات من الصراع قادمة لا محالة، سواء بقيت حماس أو اختفت من المشهد وظهرت (حماسات) أخرى تواصل النضال إلى غايته.
وتظهر مفاهيم ترامب جلية من خلال خطابه في الكنيست الإسرائيلي حيث قال: “سنفرض السلام بالقوة”، ما يعني أنه سيفرض السلام (بمعنى الاستسلام) على الشعب الفلسطيني بالقوة كي يقبل بالأمر الواقع، وكي تصبح المقاومة عملا إرهابيا غير مشروع أمريكيا وعربيا ودوليا وليس إسرائيليا فقط، وهو يتحدث هنا باسم أمريكا وإسرائيل معا، ليؤكد أن بلاده شريكة في الحرب وفي جرائمها، وأن المقاومة لم تكن تواجه إسرائيل وحدها، وإنما تواجه أيضا أمريكا وحلفاءها في الغرب والشرق.
وقال ترامب: إن “السلام الإبراهيمي يقضي بتوسيع دائرة التطبيع بين إسرائيل وجيرانها العرب”، وهو مفهوم مخادع للسلام، يتجاهل الاعتراف بالشعب الفلسطيني، ويكتفى بالإشارة إلى ضرورة تحسين حياة الفلسطينيين معيشيا، (أي السلام الاقتصادي)، ويعمد إلى توظيف المفاهيم التوراتية لتبرير جرائم الحرب، وتحويل إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) من رموز دينية إلى رموز استعمارية.
وأكد ترامب أن إسرائيل انتصرت في الحرب لأنها استخدمت الأسلحة الأمريكية، ومن ينتصر يحصل على الجائزة، ومن ثم على الفلسطينيين وأعداء إسرائيل (إيران واليمن وحزب الله) أن يعترفوا بأن إسرائيل هي التي انتصرت، ومن حقها أن تفرض سلام القوة، وتستعيد هيمنة مملكة إسرائيل الكبرى على الشرق الأوسط، وعلى الدول العربية أن تتحمل تكلفة إعادة إعمار غزة التي دمرتها الآلة العسكرية الإسرائيلية الأمريكية، وتدفع 65 مليار دولار، وتتحمل مسئولية تجريد حماس من سلاحها، وحماية أمن إسرائيل، بينما لا تزال إسرائيل تحتل أكثر من 55% من أراضي غزة، وليس هناك موعدا محددا لانسحابها، ولا ضمان قاطع لإجبارها على تنفيذ التزاماتها.
إن من يعوِّل على ترامب لكي يأتي بالسلام إلى المنطقة العربية واهم، فترامب هو الوجه الآخر لنتنياهو، وخطته قد تنهي الحرب لكنها لن تنهي الصراع، وها هي إسرائيل تنقلب على الاتفاق الذي وقّعته، فتقتل الفلسطينيين وتعرقل دخول المساعدات المتفق عليها، وتهدد بعدم إتمام الانسحاب، وها هم المستوطنون المسلّحون في الضفة الغربية يمنعون الفلسطينيين من الذهاب إلى مزارعهم لحصاد الزيتون، بينما تأتي قوات أمريكية إلى إسرائيل لإنشاء مراكز عسكرية لتأمين الاحتلال وضمان استمراره، ومراقبة تحركات الفلسطينيين وسكناتهم وطعامهم وشرابهم ومناهج التعليم في مدارسهم لكي يطمئنوا إلى خلوّها من أيّة إشارة إلى الاحتلال والمقاومة والتحرير والأقصى والإسلام والجهاد والشهادة، لخلق جيل جديد مقطوع الصلة بفلسطين العربية المسلمة، “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.