طفل لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، يقود “توك توك” في طريقه لكسب الرزق بشرف. استوقفه ثلاثة مراهقين، دسُّوا له حبوبًا من عقار “كلوزابكس” في كوب عصير. غاب عن الوعي. قتلوه حنقًا وألقوا بجثته في مجرى مائي، وباعوا مركبته بخمسة آلاف جنيه، تقاسموها لينفقوها على تعاطي المخدرات.
قد يبدو هذا مشهدًا من فيلم أسود، لكنه واقعٌ حدث بالفعل في مدينة كبيرة، ووثّقته التحقيقات الرسمية. الأخطر من ذلك، أنه لم يعد استثناءً، بل مؤشرًا واضحًا على أن شيئًا خطيرًا يتغيّر في شكل الجريمة بالمجتمع المصري. نحن لا نواجه مجرد حادثة قتل، بل نذير بانهيار أخلاقي واجتماعي متسارع.
ما الذي يدفع شابًا إلى قتل طفل بهذه البساطة؟ كيف يُزهق إنسانٌ روحًا بشرية مقابل ثمن مخدر؟ ولماذا لم يعد لوقع الجريمة في النفوس نفس الرهبة القديمة؟
في السابق، كان القتل آخر خط في دائرة الجريمة، ترتكبه عصابات محترفة، أو يحدث تحت ضغط الثأر أو الانفعال أو الحاجة القصوى. أما اليوم، فقد بات القتل قرارًا يُتخذ في دقائق، وينفذه مراهقون بلا تاريخ إجرامي، ولا أي شعور بالذنب أو التردد. القتل صار فعلاً بلا عاطفة، بلا ضمير، وبلا توقع للعقاب.
تتكرر الجرائم، وتتوالى البلاغات، وتضجّ المحاكم بالقضايا، وتصدر العقوبات المغلظة إلى حد الإعدام. لكن السؤال الأصعب يظل قائمًا: هل يكفي القانون وحده للردع؟ والإجابة، بكل أسف، لا.
نعم، هناك عقوبات صارمة، وهناك أحكام إعدام تصدر بحق من يثبت عليه القتل العمد (المادة 230 من قانون العقوبات المصري)، لكن منظومة الردع لا تقوم على النصوص وحدها، بل على مزيج من القانون والتربية، والثقافة، والوعي المجتمعي، والخوف من الله، والإحساس بحرمة النفس البشرية.
المشكلة اليوم أن القاتل لا يخاف، لأنه لم يتعلم الخوف من الحرام، ولا توقير النفس، ولا فداحة الجريمة. وما يُخيف أكثر من الجريمة نفسها، هو برودة مرتكبها، كأنما يسرق شيئًا لا أكثر، وكأن الحياة فقدت قيمتها في أعين البعض.
نحن أمام لحظة فاصلة. إما أن نعيد بناء ما تهدّم من منظومة القيم، أو نستعد لمزيد من الجرائم المروعة. لا يكفي أن نُدين القتلة، علينا أن نُسائل أنفسنا أيضًا: ماذا قدّمنا كي نحمي أبناءنا؟ ما هو دور الإعلام، والمدرسة، والبيت، والدين؟ وكيف نعيد زرع الخوف من الخطأ في قلوب الجيل الجديد؟
إن الفقر لا يبرر القتل، والإدمان لا يعفي من المسؤولية. هناك مجتمعات فقيرة، لكنها تحتكم إلى ضمير حيّ. الفقر الحقيقي ليس في الجيب، بل في الضمير حين يموت، وفي القلب حين يتبلد، وفي المجتمع حين يغض الطرف عن جرائم تقتل إنسانيتنا قبل أن تقتل ضحاياها.
بل إن الأدهى أن تتحول مثل هذه الجرائم إلى مجرد أخبار عابرة في صفحات الحوادث، لا تهز الرأي العام، ولا تفتح نقاشًا وطنيًا شاملًا حول أسبابها، وكأن القتل صار خبرًا يوميًا يُطوى مع الجريدة.
حين تُزهق حياة طفل في سبيل حفنة نقود، ولا يُحدث ذلك زلزالًا في ضمير الأمة، فالمشكلة ليست في القاتل وحده، بل في مجتمع بدأ يعتاد الجريمة ويفقد مناعته الأخلاقية. الأخطر من الجريمة هو الصمت عنها، أو تأويلها، أو تبريرها.
لا نملك ترف الانتظار. إن لم نتحرك الآن، فإن السؤال لن يكون “مَن التالي؟” بل “متى نفقد أنفسنا تمامًا؟” وما لم نُعد بناء الإنسان من الداخل، فكل القوانين ستكون مجرد حبرٍ على ورق.





























