في الأيام الأخيرة تابع الرأي العام الديني والإعلامي ما أُطلق عليه «فتنة القراء»، والخلاف الذي ظهر إلى السطح بين الشيخ محمد حشاد، نقيب قراء القرآن الكريم، والدكتور أحمد نعينع، القارئ الشهير وشيخ عموم المقارئ المصرية، هذا الخلاف المؤسف تجاوز حدود المؤسسات إلى ساحة الإعلام، فتناوله الناس ووسائل التواصل على نحوٍ أحدث بلبلةً وحيرة، لأن مصدره هذه المرة أهل القرآن أنفسهم، الذين يُفترض أن يكونوا رمز الصفاء والوحدة والخلق الرفيع.
فكيف يليق أن يتحول من يُتلى على ألسنتهم كلام الله إلى طرف في نزاعٍ علني؟ إنّ مكانة القراء والمقرئين في المجتمع الإسلامي تجعلهم قدوةً للناس، وسلوكهم مرآةً لهيبة القرآن. فإذا تنازعوا، تزلزلت الثقة في القدوة، وتجرأ البعض على مقام القرآن نفسه.
الخلاف خرج من مجاله الطبيعي حتى صار مادةً للجدل والتداول العام. وهنا مكمن الخطر، لأن الخلاف بين النخب الدينية إذا فُتح على العلن، يضعف هيبة المؤسسة الدينية، ويستغلّه المتربصون بالطعن في العلماء.
حين يختلف العامة فالأثر محدود، أما حين يختلف القدوة، فالضرر يتضاعف. فالقارئ ليس مؤديًا لصوت جميل فحسب، بل هو حامل رسالة وسلوك.
وما أجمل أن يكون حامل القرآن هو أول من يعمل بأخلاقه، فيحفظ لسانه عن الجدال، وقلبه عن الغل، ويكون أول من يطفئ الفتنة، لا أول من يُشعلها.
من الواجب أن تتدخل وزارة الأوقاف والمقارئ المصرية والأزهر الشريف بحكمةٍ وهدوء لاحتواء أي خلاف بين القراء، ضمن إطار مؤسسي يحفظ الهيبة ويغلق باب الفتنة.
القرآن الذي جمع القلوب على الهداية، لا يجوز أن يكون سببًا للفرقة. فالمناصب زائلة، لكن يبقى الذكر الحسن والعمل الصالح.
ولنا في سلف القراء الكبار أسوة حسنة، فقد اختلفوا في الأداء والقراءات، لكنهم لم يختلفوا في الأخلاق ولا في محبة بعضهم لبعض.
إنّ ما جرى بين نقيب القراء وشيخ المقارئ لا يصح أن يُختزل في أسماء أو مناصب، بل هو جرس إنذار بضرورة العودة إلى روح القرآن، الذي علّمنا التسامح والاحترام والتواضع. فحملة كتاب الله أولى الناس بأن يتجردوا من الأهواء، وأن يكونوا نموذجًا للصفاء والتراحم.
وإذا كان بعض الناس يختلفون لأغراض دنيوية، فإنّ أهل القرآن يجب أن يتنافسوا في الخير، لا في الدنيا.
فالقرآن لا يُكرّم بالصوت فقط، بل بالسلوك، ومن أراد أن يخدمه حقًّا فليكن قلبه ولسانه على قدر هذه الأمانة العظيمة. ولنحفظ جميعًا هيبة هذا الكتاب، ونُذكّر أنفسنا بأن الخلاف بين أهل القرآن لا يجوز أن يُرفع إلا على سُلَّم الأدب، لا على منابر السوشيال ميديا.





























