رؤية– إسراء طلعت
في زمن تتكاثر فيه المنصات، وتختلط الأصوات ما بين متخصص وغير متخصص، تبقى دار الإفتاء المصرية نموذجا راسخا للمؤسسة الدينية الرسمية التي لم تكتف بموقعها في قلب الدولة، بل اختارت أن تذهب إلى الناس حيث هم، في الشارع، المدرسة، ومواقع التواصل، لتؤدي دورها في تحصين العقول وبناء الوعي ومواجهة التطرف بالفهم المستنير.
لقد أدركت دار الإفتاء مبكرا أن معركة الوعي لا تُحسم داخل المكاتب المغلقة، بل في قلب الميدان، وسط الناس، حيث تتشكل الأسئلة الحقيقية وتتشابك الأفكار. ومن هنا انطلقت بخطة متكاملة لتجديد الخطاب الديني عمليًا، وجعل الإفتاء أقرب إلى المواطن من أي وقت مضى.
الإفتاء في الشارع
لم تعد دار الإفتاء تكتفي ببوابتها الإلكترونية أو صفحاتها الرسمية التي يتابعها الملايين، بل توسعت في حضورها الميداني والإعلامي على السواء، فخلال السنوات الأخيرة، كثّفت الدار قوافلها الدعوية والتوعوية إلى المحافظات المختلفة، والتقت الشباب والطلاب والعاملين في المؤسسات الحكومية والجامعات، لتوضح المفاهيم الدينية الصحيحة وتفند الشبهات التي تثار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتسعى الدار من خلال هذا التواجد الفعال إلى كسر الحاجز بين المؤسسة الرسمية والمواطن البسيط، فالمفتي والعلماء المشاركون في هذه القوافل لا يلقون محاضرات تقليدية، بل يفتحون نقاشا حيا مع الجمهور، يستمعون إلى أسئلتهم كما هي دون حرج، ويجيبون عليها بوضوح بلغة قريبة من الناس، بعيدا عن التعقيد أو المصطلحات الجافة.
يقول أحد المشاركين في القوافل الدعوية: “أهم ما يميز تجربة الإفتاء الميدانية هو أنها تجعل المواطن يشعر أن هناك من يسمعه ويفهم قضاياه، وأن الفتوى ليست نصوصًا جامدة بل توجيه رحيم مرتبط بالواقع”.
مواجهة التطرف
تضع دار الإفتاء حماية الشباب والأطفال من الفكر المتطرف في مقدمة أولوياتها، إدراكا منها أن التطرف لا يبدأ من ساحات القتال بل من الأفكار التي تزرع في العقول الصغيرة، ولهذا أطلقت الدار مجموعة من البرامج الموجهة خصيصًا لهذه الفئات، عبر المدارس والجامعات ومراكز الشباب، لزرع قيم الانتماء والوسطية، وتوضيح مفهوم الدين الصحيح البعيد عن العنف والتشدد.
كما أنشأت دار الإفتاء مؤشر الفتوى، الذي يرصد على مدار الساعة كل ما ينشر عبر الإنترنت من فتاوى مغلوطة أو أفكار متطرفة، ويقوم بتحليلها والرد عليها علميا بلغة يفهمها الشباب، ويعد واحدا من أهم أذرع دار الإفتاء في معركة الفكر، إذ يتعامل مع التريندات الفكرية والمجتمعية ويجمع أهم الفتاوى التي تنشر وتهم الجمهور.
وفي هذا السياق، يؤكد عدد من المتخصصين أن مواجهة الفكر المتطرف لا تتحقق بالمنع فقط، بل بوجود بديل رشيد يشبع حاجة الناس إلى الفهم الديني الصحيح، وهنا يأتي دور الإفتاء في تقديم خطاب عصري يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويقدّم الدين في صورته الرحيمة التي تحفظ الإنسان وتبني المجتمع.
قضايا الساعة
واحدة من أهم سمات تجديد الخطاب الديني أن يكون منخرطًا في القضايا الواقعية، لا يكتفي بالتنظير من بعيد. وقد أثبتت دار الإفتاء خلال السنوات الماضية قدرتها على التفاعل السريع مع الأحداث التي تشغل الرأي العام، سواء كانت قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ذات أبعاد دينية.
فعندما تنتشر قضية ما عبر مواقع التواصل، تصدر الدار بيانا أو فيديو توضيحيا لتصحيح المفاهيم، وتقديم الرأي الشرعي المعتدل، بما يمنع انتشار الفتاوى المضللة التي يطلقها غير المتخصصين، وهذه القدرة على ملاحقة الحدث والرد العلمي المتوازن جعلت الإفتاء تحافظ على مكانتها الموثوقة في نظر المواطنين، خاصة في زمن تتعدد فيه المنابر وتتشابك فيه المصالح.
ومن المقترحات التي يمكن أن تعزز هذا الدور، تشكيل وحدة اتصال مباشر مع وسائل الإعلام ومواقع التواصل، تكون مهمتها متابعة القضايا الأكثر تداولًا وإعداد ردود مبسطة وسريعة، تصل للجمهور قبل أن يتم تضليلهم بخطاب متشدد أو مغرض.
التوسع الميداني
خلال السنوات الأخيرة، بدأت دار الإفتاء في تنفيذ خطة انتشار جغرافي تشمل العديد من المحافظات، من خلال افتتاح مقرات أو مكاتب إفتاء فرعية، بما يقرب الخدمة الإفتائية من المواطنين في كل مكان، وقد أثبتت التجربة نجاحا كبيرا في المحافظات التي شهدت وجودًا دائمًا لمفتيين تابعين للدار، ما خفف العبء عن المركز الرئيسي بالقاهرة، وسهل حصول المواطنين على الفتوى الصحيحة من مصدر موثوق.
ومن الضروري أن يتم التوسع في هذه التجربة لتشمل جميع المحافظات والمراكز الكبرى، بما يضمن وصول الفتوى الرشيدة إلى كل بيت مصري.
كما يمكن أن تطلق الدار، بالتعاون مع المحافظات ووزارتي التربية والتعليم والشباب والرياضة، برنامجا شهريا للزيارات الميدانية إلى المدارس والجامعات ومراكز الشباب، يُشارك فيه علماء الإفتاء للتواصل المباشر مع الطلبة والإجابة على أسئلتهم حول مفاهيم الدين والهوية والانتماء، فوجود رجل الدين المستنير داخل المؤسسة التعليمية يمثل درعا وقائيا بالغ الأهمية ضد التطرف والأفكار الهدامة.
بناء الوعي
لم يعد دور دار الإفتاء مقتصرا على إصدار الفتاوى، بل أصبح مشروعا وطنيا متكاملا لبناء وعي ديني رشيد، وهذا المشروع لا يمكن أن ينجح بمعزل عن باقي مؤسسات الدولة، بل يتطلب تعاونا بين وزارات التعليم والثقافة والشباب والإعلام، بحيث تتكامل الأدوار لتشكيل جبهة فكرية موحدة ضد التطرف.
ومن المقترحات المطروحة في هذا الإطار، توقيع بروتوكولات تعاون مع المدارس والجامعات لتنظيم ندوات وورش عمل شهرية، وإطلاق مبادرة “اسأل متخصص” عبر وسائل التواصل لتلقي الأسئلة اليومية والرد عليها بلغة عصرية وذلك بخلاف البث المباشر الذي يقدم عبر صفحة الدار، وتدريب الأئمة والدعاة الشباب على مهارات التواصل مع الجمهور والإجابة عن الأسئلة الحديثة التي يطرحها الجيل الجديد جيل z وإنتاج محتوى رقمي قصير ومؤثر يستهدف فئات الشباب والمراهقين عبر: تيك توك وإنستجرام ويوتيوب؛ بأسلوب بسيط وجاذب.
الإفتاء وصناعة التريند
في ظل سيطرة المحتوى السريع على عقول الشباب، لم يعد مقبولا ترك “التريند” لمن لا يمتلك أدوات العلم أو الفهم، ولهذا، من الضروري أن تواصل دار الإفتاء التلاحم مع القضايا الاجتماعية والدينية المطروحة على السوشيال ميديا، فتدخل إلى ساحة النقاش من موقع الخبير العارف، لا من موقع المراقب الصامت.
وهذا يتطلب بناء فريق رصد إعلامي ودعوي متخصص داخل الدار، مهمته تحليل اتجاهات النقاش العام واقتراح موضوعات للرد أو التوضيح، بحيث يكون صوت الإفتاء حاضرًا في كل قضية تمس الدين أو القيم المجتمعية. فترك هذه المساحة لغير المتخصصين يفتح الباب للفوضى الفكرية، ويمنح منابر للجهل والتشدد.
نحو حضور أعمق
بلا شك لقد أثبتت التجربة أن دار الإفتاء المصرية حين تقترب من الناس، تكسب ثقتهم وتعيد للدين صورته الرحيمة. ولعل الخطوة القادمة هي تحويل هذا الحضور من مبادرات موسمية إلى استراتيجية مستدامة، تجعل التواصل مع الشارع والمدارس والمجتمع المحلي جزءا أصيلا من عمل المؤسسة.
فحين يشعر المواطن أن هناك من يسمعه ويرد على تساؤلاته بصدق وعلم ورحمة، تنغلق أبواب التطرف تلقائيا، وينتصر العقل المستنير على الجهل، وتبقى مصر محصنة بعلمائها.





























