عُدنا من أرض شنقيط (موريتانيا )الإسلامية الحبيبة .. أرض المليون شاعر، والعود أحمد ،عدنا إلى مرابع ومعاقل العربية ،عُدنا ونحن نؤكد للدنيا أنّ لغة القرآن لغة الخلود ،لغة الإنسانية ،رأيتها بأمّ عيني وهي تنساب على ألسنة أحبابي الأفارقة الأسبوع الماضي ،وكأنها تجري في عروقهم وهم يبدعوها حاضرة في منتدياتهم ،مؤكدة أنها لم تغب عن وجدان هذا الكون الفسيح طرفة عين ؛بوصفها خِزانةً لعطاءات الفكر الإنساني وذاكرته ،وناقلًا حافظًا أمينًا لتراثنا العربي والإسلامي ،وثقافاتٍ ومعارفَ عالميةٍ تفاعلت معها في أزمانٍ غابرة ،حتى غدت في حاضرنا بعد هذا التمازج مع الآخر بكل أنساقه ومعتقداته – لسانًا وبيانًا ،فكرًا وإبداعًا ،لغةً وفضاءً – أداةً للتواصل الحضاري والإنساني ،فما من أرضٍ على وجه البسيطة إلّا وَجَدْتَ فيها صوتًا عربيًا ،لحرفٍ عربيٍّ ،أو درسٍ عربيٍّ ،أو لسانٍ عربيٍّ ،أو مِنبرٍ تعليمي عربيٍّ ،وألفيت كثيرًا من المؤسسات الأكاديمية قد جعلت من العربية مرتكزًا لبدء العلم ومناهجه ،ومرجعًا أصيلًا لتاريخ المعرفة ،ليتأكّد للدنيا حُضور الأبجدية العربية بموروثها المعرفي الحضاري ،وإبداعها الإنساني في الفضاء المعرفي العالمي.
عُدنا بفضل الله من أرض شنقيط بأهمّ توصية من توصيات اجتماع أربعين دولة أفريقية وعربية حبًا ووفاءً وإجلالًا للغة القرآن ؛ وهي ضرورة توثيق التراث الإفريقي بالحرف العربي ، وقد تحقق هذا قبل أن تُوصي الأمة ،فرأينا شموخ الحرف العربي في دولة (مالي) وهو يقف كالطود العظيم حافظًا تراث مخطوطاتها بمعهد (باماكو) العربي ،ليغدو التواصل مع اللسان العربي والإبداع البياني في دولة مالي الشقيقة متعةً روحية ،وسياحة وجدانية ماتعة ، بصحبة الصديق الحبيب الدكتور مبروك كريم مدير(المعهد الثقافي الإفريقي العربي في مجال اللغة العربية)، أول وأهم مؤسسة عربية أفريقية أُنشأت في مالي بالعاصمة (باماكو) لتجسيد وتطوير التعاون الثقافي بين الجانبين الأفريقي والعربي ،وذلك برغبة سياسية من قبل الزعماء العرب والأفارقة ،وتلبية لتوصيات القمة العربية الأفريقية الأولى التي عُقدت في القاهرة في مارس عام 1977م ،ومنذ انطلاقه في سنة 2002م يعمل المعهد على تعزيز مكانة اللغة العربية ،لما لها من أهمية قصوى لدى العديد من الشعوب الأفريقية التي تُعدها من كبرى اللغات الأفريقية ،بل اللغة الأوسع انتشارًا فعليًا في القارة السمراء ؛فهي لغة مقدسة ،إذ إنّها لغة القرآن ،وهي لغة أساسية في القيام بالعديد من العبادات والشعائر الدينية.
وكان للغة العربية تأثيرها الواسع في عدد كبير من اللغات الأفريقية ،مثل :الهوسا، والسواحيلية ،والأمهرية ،والصومالية ،وفي هذا الصدد عمل المعهد الثقافي العربي بـ (باماكو )على إبراز هذا التأثير من خلال إصدار سِفْرٍ من مجلّدين عتيقين يحمل عنوان (تراث مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربي) ،وفيه تمّ اختيار ثمان مخطوطات قديمة بلغات أفريقية مكتوبة بالحروف العربية ،وقد ظفرت صوت الأزهر ببعض صورٍمن مخطوطات هذا الكتاب ،مثل مخطوطة (الانكشاف) التاريخية ،للشيخ سيد عبدالله ناصر.
ولم يقتصر دور المعهد التابع للجامعة العربية عند الحفاوة بالحرف العربي في كتابة المخطوطات فحسب ،بل يقيم الدورات التدريبية ،والندوات العلمية الدولية التي تبرز مكانة اللغة العربية تاريخيًا لدى الشعوب الأفريقية ،أبرزها الندوة الدولية حول:(الأدب الأفريقي الناطق باللغة العربية) بالتعاون مع جامعة الملك فيصل بأنجمينا ،وكان لي شرف المشاركة العلمية ورئاسة إحدى جلساتها ،والدورة التدريبية المستمرة حتى اليوم (لكتابة اللغات الأفريقية بالحرف العربي) بالتعاون مع منظمة الإيسيسكو ،وغيرها كثير.
ولا يُمكن الحديث عن شموخ الحرف العربي في مالي دون الحديث عن إسهامات أعلامها في نشر وترقية اللغة العربية ،نحوًا ،وإملاءً ، وعروضًا ، وبيانًا ،فقد سطعت في هذا المجال هذه الشموس المعرفية :الشيخ أحمد بابا التمبكتي ،مؤلف كتاب (نيل الابتهاج بتطريز الديباج)، والشيخ محمود كعت الكرمني ،مؤلف كتاب(تاريخ الفتاش)،والشيخ موسى كمرا ،مؤلف كتاب (زهور البساتين في تاريخ السودانيين )،إضافة إلي قادة عظام أقاموا ممالكهم على أسسٍ ثقافية إسلامية عربية كالشيخ أحمد لبو مؤسس دولة مَاسينا بمالي ، وشعراء أعلام أبدعوا تجارب شعرية عالمية أبرزت الهوية العربية لمبدعي مالي الذين احتفوا بالعربية لُسنًا وإبداعًا ، كالشاعر المالي آدم تُوغورا، والشاعر محمد جاكيتي الذي فاخر بعربيته ،ومسقط رأسه (تُمْبُكْت) ،جوهرة الصحراء الكبرى ،والعاصمة الإسلامية والثقافية والتراثية لجمهورية مالي ،ملتقى الحضارات والثقافات منذ مئات السنين ،والتي أُسّست في القرن الخامس الهجري حينما وصلها الإسلام ،لذا تُعرف بمدينة المآذن والأولياء ،فهي مدينة إسلامية النشأة ،لم يدنسها عبادة أوثان .
وقنديلُ الله السّاطع ،الشاعر المالي المجيد عبدالمنعم حسن محمد ،الذي ملأ الدنيا ضجيجًا بقصيده العربي الفني السّبك ،والذي حلّق مؤخرًا كالنَّسرِ جريئًا في سماوات الإبداع العربي على شاطئ الراحة ،يحدوه أمل العودة لبلاده منتصرًا ،أميرًا للشعر العربي ،بقصيدته (ذكرى تَتَوهّجُ في الدّقة) التي يقول فيها:
قِنْديلُ اللهِ السّاطعُ يجثُمُ فوق مُحيطِ الأشكال
جريئًا.. كَالسِّحْرِ الطّاغي في تَحْدِيقَةِ نَسْر
أَدْخُلُ عَبْرَ دَهَاليزِ الأُفْقِ إلي بَهْوٍ من فَخّار
وامرأَةٌ رَاكِعَةٌ تَكْنِسُ رَمْلَ الذِّكْرى
أَتعَثّرُ بتماثيلِ العاجْ ،عُرُوقِ التِّبْرِ الكَامِنِ في الأَصْلَادْ
طُبُولٍ جَفّتْ فيها أَذْرُعُ أَسْلافي
وَرِمَاحٍ مُنْهَكةٍ كمْ طَعَنَتْ أَقْمارًا وأَيَايِلَ!
لَوْلَا أَنّ النّهْرَ ينامُ وحيدًا وحَزينًا
مَا مَدّوا كَفًّا لِلْأَبَنُوس.
فيتوهّج شاعرنا المالي بإبداعه العربي في سماوات الأرض العربية بهذه القصيدة التي أحدثت لغطًا كثيرًا بين نقّاد العربية ،تلك التجربة الصوفية ،الإنسانية، الذاتية ،التأملية التي أغرقته في ذكرياته وماضيه ،لكنه رغم هذه المكابدات دلفَ عبر سبكها الفني ،ومعانيها اللامحدودة ،إلي دهاليز المجد والعزّ ،دهاليز هذا الوجود الساحر في محيطه الآخذ بالألباب ،بفخاره ،وهيبته ،وجلاله ،شاطئ الراحة ،حلبة الصراع الإبداعي على سُلّم المجد الشعري في هذه المدينة العربية الساحرة (أبوظبي) ،والتي أعدّ لها العُدّة ،ليأتيها من أدغال أفريقيا (جريئًا.. كَالسِّحْرِ الطّاغي في تَحْدِيقَةِ نَسْر) ،لكنّ النَّسْرَ المالي يتهاوى في مطلع القصيدة فيتعثّر في عبوره للمجد بهذه المرأة الراكعة / أفريقيا التي مازالت نهبًا للقوى الاستعمارية الغاشمة ،وتعترضه تماثيل العاج ،وعروق التّبر المتوارية في أرحام هذه الأرض الصخرية الغليظة الصّلبَة التي لا تُنبتُ شيئًا ،والطّبول ،وأذرع الأسلاف التي جفّت ،والرماح
المُنْهكة.. كل ذلك إسقاط بالرمز على:
الواقع الأفريقي الذي يئنُّ: إنسانيًا ،واقتصاديًا ،وسياسيًا ،وعنصريًا ،وعقديًا، والنهر/الصديق العربي ،غارقٌ في سُباته وحيدًا ؛ما أعطى فرصة ليد المستعمر الباطشة أن تمتدّ بالسوء لهذا الشجر الأبنوس ،وجّذه من جذوره،(وهي رموز يُمكن تأويلها بالأديان ،والسياسة وحروبها ،والأهواء والعنصرية : فالأديان: تماثيل ،ومال ،وتبر،والسياسة وحروبها :رِمَاحٌ ،والأهواء والعنصرية :الطبول ،والأسلاف،: وكل ذلك خلاصته: إشكاليات الوجود البشري الدين / الاقتصاد / السياسة/العنصرية ،وهو ما تفوقت في تصويره فنيًا بوجدان إفريقي ؛لغتنا العربية الشاعرة دون غيرها من اللغات .





























