هذا المقال يجمع بين ثلاث قضايا شغلتنى على مدى الأسبوع الماضى ، كل واحدة منها كانت تلح على أن أوثرها بالكتابة ، وكلما هممت بالاستجابة لها برز إلحاح الأخرتين أعلى صوتا فأتراجع لأفكر فى الثانية ثم فى الثالثة ، وأخيرا وجدت الحل فى أن يجمع المقال ثلاثتهم بشيء من الاختصار غير المخل.
القضية الأولى هى النظرة المقيتة التى تعامل الغرب بها مع مذبحة المسجدين فى نيوزيلندا ، إذ لم تنل نفس الاهتمام الذى تحظى بها أية جريمة إرهابية يكون الجانى فيها مسلما والمجنى عليهم مواطنين غربيين ، هذه المرة الضحايا مسلمون ولذلك ظهرت ازدواجية المعايير فى تعاملهم معها ، فلم يستخدموا مصطلح الإرهاب فى وصف الجريمة رغم أنها ارتكبت على أساس دينى وكانت معدة ومرتبة مع سبق الإصرار والترصد بهدف التطهير العرقى والدينى ، ولم يتحدث أحد عن دين الإرهابى أو دوافعه الدينية المنطلقة من نصوصه المقدسة وضرورة تعديل وتطوير هذه النصوص أو إلغاؤها تماما ، مثلما طلبت فرنسا حذف آيات معينة من القرآن الكريم.
نيوزيلندا
وحدها رئيسة حكومة نيوزيلندا هى التى تعاملت مع الجريمة البشعة بأسلوب حضارى راق ، ووصفت الجريمة بأنها إرهاب عنصرى مرفوض ، لكنها لم تتهم الجانى بأنه إرهابى وأصرت حتى الآن على أنه ” متهم ” ، وأن الجريمة ارتكبت بشكل فردى ، وحصرت التهمة فيه شخصيا ولم تتهم دينه وأتباع دينه ، وهذا أمر جيد نؤيده وندعمه لأنه يبتعد عن التعميم الذى يغذى تيارات التعصب والكراهية بين الشعوب ، لكننا فى الوقت نفسه نطالب بتطبيقه فى كل الحالات المشابهة عندما يكون الجانى مسلما ولا يكون الكيل بمكيالين .
أما القادة الشعبويون فى أمريكا وأوروبا فقد تجاهلوا الجريمة بسرعة وأغلقوا ملفها بعد كلمات العزاء الباهتة لأسر الضحايا ، وتبعتهم فى ذلك وسائل إعلامهم التى انشغلت بأمور وجدتها أهم من قتل وإصابة حوالى مائة شخص من الأبرياء العزل وهم يصلون فى مسجدهم ، ولم يذهب قادة العالم من الشرق والغرب ليصطفوا فى موقع الجريمة مثلما فعلوا مع جريمة شارلى إبدو فى فرنسا ، رغم أن عدد ضحايا المسجدين أضعاف عدد ضحايا شارلى إبدو .
وهناك بعض الأصوات خرجت فى الغرب تحاول أن تبرر للإرهابى ارتكاب جريمته باعتبارها رد فعل لتطرف داعش والقاعدة واتساع ظاهرة الخوف من الإسلام ” إسلاموفوبيا ” ، الأمر الذى يعطى شرعية لمزيد من الاعتداءات على المسلمين نتيجة لعدم الجدية فى توصيف جرائم العنصرية والعداء للإسلام والمسلمين ومعاقبة مرتكبيها قبل أن يستفحل خطرهم ويصل إلى قتل الأبرياء المصلين فى المساجد.
لقد حان الوقت ليتعامل العالم بمعيار واحد مع جرائم الإرهاب أيا كان مرتكبها وأيا كان ضحيتها ، وأن يتم التعامل مع جرائم الإرهاب على قاعدة أن كل الدم الإنسانى حرام ، وأن قيمة الدم الأبيض لا تعلو على قيمة أى دم آخر لبنى البشر ، كذلك حان الوقت ليدرك العالم أن ظاهرة الإسلاموفوبيا خطر عظيم على السلم والأمن الدوليين لأنها تعمل على خلق وتأجيج صراع لا يفيد أحدا ، وتدفع فى اتجاه ترسيخ الكراهية والعنف.
القضية الثانية مرتبطة بالأولى ارتباطا وثيقا ، بل هى ناشئة عنها ومتفرعة منها ، وأقصد بذلك جريمة حرق المصحف الشريف فى الدنمارك الجمعة الماضية من قبل رئيس حزب ” الاتجاه الصلب ” راسموس بالدوان وعدد من أتباعه دون أن تتحرك أية جهة رسمية لمنع هذا السلوك الهمجى الذى يحمل الكراهية والازدراء للإسلام والمسلمين ومقدساتهم ويثير الأحقاد والكراهية.
وكانت مجموعات من المسلمين الدنماركيين قد حصلوا على تصريح رسمى بأداء صلاة الجمعة الماضية فى ساحة كبرى مواجهة لمقر البرلمان فى العاصمة كوبنهاجن بهدف لفت انتباه المجتمع إلى مذبحة المسجدين فى نيوزيلندا ، وهو ما أثار حفيظة القوميين اليمينيين المتطرفين فنظموا مظاهرة احتجاج ضد هذه الصلاة ، وأرادوا استفزاز مشاعر المصلين وحاولوا تفريقهم بالقوة لكن الشرطة أوقفتهم على بعد 100 متر فقط من ساحة الصلاة وتركتهم يعبثون بكتاب الله المعظم ، يحرقون نسخا ويتقاذفون نسخا أخرى.
ولنا أن نتساءل هنا عن الحقد والغل الذى يكنه هؤلاء الجهلة الهمجيون لكتاب لا يحمل إلا الخير للناس ، إلا أن تكون النفوس قد ملئت بالسواد ولم تعد قادرة على قبول الآخر المختلف واحترام خصوصيته ومقدساته ، بالتأكيد لم يسمع هؤلاء عن ” وثيقة الأخوة الإنسانية ” التى وقعها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان فى أبو ظبى الشهر الماضى بهدف ترسيخ التعاليم الصحيحة للأديان السماوية وتأكيد المساواة بين الناس جميعا واحترام التعدد والتنوع والاختلاف فى الدين واللون والعرق واللغة والتمسك بثقافة التسامح والتعايش .
الإنسان عدو ما يجهل ولو فتح هؤلاء المضللون الكتاب وقرأوا فيه فلسوف يجدون قول الحق:” لكم دينكم ولى دين ” و” أعرض عن الجاهلين ” و” فاصفح الصفح الجميل ” و” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن ” و” تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ” .
أما القضية الثالثة فهى الأسوأ حالا ، لأنها تتعلق بهوان القرآن علينا نحن ، فقد نشرت صحيفة ” مكة ” السعودية رسما كاريكاتوريا يسيء إلى كتاب الله العزيز، يتضمن الآية الكريمة ” ولكم فى القصاص حياة ياأولى الألباب ” برسم المصحف ، ولكن بعد أن رفع كلمة “القصاص ” من السياق ووضع مكانها صورا لأوراق مالية من فئة الـ500 ريال سعودى ، ليعطى دلالة على أن المال صار هو الحياة وليس القصاص.
لقد أساء التعبير وأساء الأدب مع كتاب الله ، ورغم ردود الفعل الغاضبة والمطالبة برفع الرسم المسيء فإن الصحيفة مازالت متمسكة به على صفحتها الأليكترونية كنوع من التحدى ، ولاحول ولا قوة إلا بالله .