في مراحل معينة من حياتنا، نمر جميعًا بتجارب عاطفية نظن أنها “القدر”، وأنها يجب أن تستمر مهما كانت الصعوبات.
نتمسك بالعلاقة وكأن بقاءها هو ما يثبت أننا أحببنا بصدق، وأن الفراق يعني الفشل. لكن الحقيقة أن هذا التمسك المفرط ليس حبًا في أغلب الأحيان، بل هوس بعدم الانتهاء، وخوف من الفقد، وتمسك بصورة مثالية عن الحب أكثر من تمسكنا بالشخص ذاته.
كثيرون يمرون بهذه الحالة دون وعي. يعيشون الحب بقلوب طفولية، يصدقون أن المشاعر وحدها كافية، وأن من نحبهم يجب أن يظلوا معنا للأبد. يختزلون فكرة الحب في الاستمرار، ويغفلون عن أن بعض العلاقات يُكتب لها أن تنتهي لتعلّمنا شيئًا لا لتكمل معنا العمر.
الهوس بعدم الانتهاء يجعل صاحبه يعيش في دائرة من الإنكار. يُبرر كل ما يؤذيه، يبرر الإهمال، والأنانية، والخذلان، فقط ليُبقي العلاقة حية شكليًا، حتى لو ماتت روحيًا منذ زمن.
وفي هذه الدائرة، يُصاب الإنسان بعمى مؤقت عن الحقيقة — لا يرى أن الطرف الآخر قد لا يحبه بنفس العمق، أو أنه ببساطة شخص غير مناسب له.
لكن مع مرور الوقت، ومع الألم المتكرر، يحدث التحول.
يبدأ الوعي في الظهور. يكتشف الإنسان أن التمسك لم يكن بدافع الحب، بل من خوف دفين من الوحدة، من الفقد، من فكرة النهاية.
يدرك أن الحب الحقيقي لا يعني البقاء رغم الانكسار، بل القدرة على الرحيل حين يتحول الحب إلى عبء.
حين يصل الشخص إلى هذه المرحلة من الإدراك، يبدأ في التصالح مع فكرة أن الفراق ليس هزيمة، بل أحيانًا هو شكل من أشكال النضج والرحمة بالنفس.
يصبح من الطبيعي أن يحب إنسانًا، ثم يدرك أنه لا يناسبه. من الطبيعي أن تنتهي علاقة، دون عداوة، ودون كره، فقط لأن الطريقين اختلفا.
هذه الحالة من الوعي تمثل قمة النضج العاطفي. أن ترى الحب كتجربة لا كملكية، كرحلة لا كضمان. أن تتقبل أن الانتهاء جزء من الحياة، وأن السلام الداخلي أهم من استمرار مؤلم.
الذين يمرون بهذه التجربة يكتشفون أن الحب الحقيقي لا يُقاس بطول المدة، بل بعمق الأثر. فقد تستمر علاقة سنوات دون معنى، وقد تبقى لحظة واحدة في القلب عمرًا بأكمله. وفي النهاية، من يتجاوز هذا الهوس يخرج شخصًا مختلفًا: أكثر وعيًا، أكثر توازنًا، وأقل خوفًا من النهايات. لأنه يدرك أن النهاية ليست دائمًا فقدًا، أحيانًا تكون بداية. بداية تصالح مع الذات، وبداية نضج، وبداية حرية من فكرة أن الحب هو البقاء مهما كان الثمن.
فالحب الناضج لا يربطنا بالسلاسل، بل يعلمنا كيف نتحرر برقي، وكيف نقول وداعًا بسلام. فعدم التمسك نجاة.





























