بقلم د. أسامة الأزهرى
وزير الأوقاف
إن دراسة السيرة النبوية عبارة عن استكشاف لمنهج نبوي متكامل في بناء الإنسان وصناعة الحضارة وإقامة العمران، فقد امتلك الجناب المعظَّم- صلى الله عليه وسلم- “عين الكاشف” التي تستجلي الشرارة الكامنة والموهبة المدفونة في داخل كل صحابي، لتكشف لنا عن بصيرة محمدية لا تُبارى في إدارة الكفاءات البشرية، وإبراز العنصر البشري في أبهى حُلَّة من خلال رؤية محكمة لا مثيل لها من الهادي المعصوم.
إن رؤية النبي الأعظم في اكتشاف المواهب ورعايتها وتوجيهها، لهي المثال الأسمى لما يمكن أن نطلق عليه اليوم “الإدارة النبوية الاستثنائية”، فلم يكن النبي يُقَولِب أصحابه في نموذج واحد، بل كان يرى في التنوّع إثراءً وقوة، فكانت إدارته تقوم على مبدأ التخصص الدقيق وتفويض الثقة، ولم يكن الأمر مجرد ضربة حظ أو صدفة عابرة، بل كان مزيجًا عجيبًا مدهشًا من هندسة روحية إدارية تُقدّر كل زهرة في بُستان الصحابة، وتضعها في الموضع الذي يزهر فيه عطاؤها، ويسري خيرها في أمّته كما يسري الماء في الورد.
فالمنهج النبوي في الاكتشاف قد رأى في الشاب العبقري سيدنا زيد بن ثابت ذكاءً وقُدرة على التعلُّم، فلم يتركه في موضعٍ عام، بل وجَّهه توجيهاً متخصصاً يبرز إمكانيته، فتعلّم زيد السريانية أو العبرية في أسبوعين، من خلال توجيه دقيق وفائق يضع الموهبة النادرة، وهي سرعة تعلّم اللغة لتكون في خدمة استراتيجية الدولة ورؤية الوطن من خلال حركة الترجمة والحفاظ على الأمن المعلوماتي.
وكان المتحدث الرسمي باسم مجتمع المدينة الفاضلة صاحب الصوت الجهوري، والفصاحة، والقُدرة على الخطابة المؤثّرة خطيب الإسلام سيدنا ثابت بن قيس، فكان التوجيه والاختيار النبوي المباشر بأن يكون في مواجهة وفود القبائل ليخطب بين أيديهم، ردّاً على الخطباء المخالفين، رغم القُدرة النبوية الفارقة على أسْر القلوب بعذْب كلامه الشريف، فقد أُوتى حضرته جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا، ولكن وازع العرفان بالكفاءة فاض على ذاك الخطيب البارع.
ومن إبداع إدارة المواهب عند الجناب الأفخم- صلى الله عليه وسلم- أنه يدرِّب أصحابه على الاستقلال العقلي والمبادرة، ليقوم بإعداد قادة عندهم القُدرة على صناعة القرار، فعندما أرسل سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن، سأله هذا السؤال العبقري “بم تحكم؟” وسؤال كهذا درس في “صناعة القرار المستقل”، يهدف إلى تمكين الموهبة من الاعتماد على الأصول الشرعية ثم الاجتهاد الشخصي، الذي يُبرز الحِنْكة السياسية في اتخاذ القرار.
إن كل مثال من هذه الأمثلة، يؤكد لنا أن النبي كان يُحسن إدارة المواهب، ويدرك أن قوّة الأمّة تكمُن في تنوّع تخصصات أبنائها، ويُبصر النور الكامن في كل إنسان، ليبرز هذا المزيج المبدع من بناء الإنسان وصناعة الحضارة؟






























