هيكل مؤسسي شامل يغطي كل مجالات الإفتاء والخدمات الشرعية
موسوعات كبرى بـ 54 مجلدًا للفتاوى الإسلامية.. 115 ألف فتوى موثقة في 205سجلات
16 منصة تواصل بلغات متعددة.. 19 إدارة متخصصة
تقرأها- إسراء طلعت
على امتداد أكثر من مئة وثلاثين عاما، ظلت دار الإفتاء المصرية إحدى أهم المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، وواحدة من أكثر الجهات تأثيرًا في تشكيل الوعي الديني وترسيخ منهج الوسطية، استطاعت أن تحافظ على هوية المجتمع، وتواجه الفكر المتطرف، وتقدم الفتوى المنضبطة التي تصون الدين والإنسان.
معا في هذا التقرير نرصد تاريخ وجهود الدار كما تثبتها الوثائق الرسمية، ويكشف حجم الإنجاز العلمي والإداري الذي تراكم عبر قرن وثلاثة عقود.
تحتفل دار الإفتاء المصرية هذا العام بمرور 130 عامًا على تأسيسها، لتؤكد مجددًا مكانتها كمؤسسة دينية رائدة تجمع بين الأصالة الشرعية والتجديد الرقمي، وتقدم خدماتها للمواطنين بمستوى عالٍ من الدقة العلمية والاحترافية.
فقد شهدت الدار خلال هذه الفترة الطويلة توسعًا ملحوظًا في إداراتها الداخلية، حتى وصل عددها إلى اثني عشر إدارة متخصصة تغطي جميع الجوانب الشرعية، من إدارة الفتوى العامة والبحوث الشرعية، إلى إدارة الدراسات الإسلامية والإعلام والتواصل والخدمات الرقمية، بالإضافة إلى إدارات أخرى تعنى بالفتوى الموجهة للأطفال والشباب والمرأة. هذا التوسع يعكس حرصها على تقديم فتاوى دقيقة ومتخصصة تلبي احتياجات جميع فئات المجتمع، مع الحفاظ على أعلى معايير الدقة العلمية والشرعية.
مؤسسة علمية موثوقة
فمنذ تأسيس الدار في نهاية القرن التاسع عشر، تبوَّأت موقعها كمؤسسة علمية موثوقة تقوم على منهج راسخ يجمع بين أصالة الفقه الإسلامي ووعي العصر. وتعاقب عليها مفتون كبار، أسهم كل منهم في إثراء مسيرة الإفتاء، وقدموا آلاف الفتاوى التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الشرعية لمصر، حيث تشير الوثائق الرسمية إلى أن بعض المفتين أصدروا عشرات الآلاف من الفتاوى خلال ولايتهم، مما يعكس حجم الجهد العلمي الذي ميّز المدرسة المصرية في الإفتاء.
وعلى مدار 130 عامًا، أصدرت دار الإفتاء المصرية أكثر من 320 ألف فتوى شاملة، تغطي مختلف الموضوعات الدينية المعاصرة، بدءًا من العبادات والمعاملات وصولاً إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بما يعكس اهتمام الدار بمواكبة التغيرات المجتمعية والاحتياجات الجديدة للمواطنين. وقد حرصت المؤسسة على اعتماد أحدث الأساليب العلمية في صياغة الفتوى، مع الاستعانة بالمراجع المعتمدة من التراث الإسلامي، لضمان مطابقة الفتاوى للشريعة والقوانين المصرية، ما عزّز ثقة المواطنين في الدور الشرعي للدار.
مواكبة التطورات
لم تقتصر جهود دار الإفتاء على الفتوى التقليدية فقط، بل عملت على مواكبة التطورات الرقمية منذ عقود، من خلال إطلاق منصات رقمية متكاملة تخدم الجمهور على مدار الساعة، فقد دشَّنت الدارُ المنصةَ الرقمية الكبرى التي تضم قاعدة بيانات ضخمة لأكثر من 120 ألف فتوى رقمية يمكن البحث عنها بسهولة، إلى جانب تطوير تطبيقات ذكية للهواتف المحمولة تسهّل وصول الفتاوى مباشرة إلى المستخدِمين. كما حرصت الدار على تعزيز تواجدها على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تتفاعل يوميًا مع ملايين المتابعين لنشر المعرفة الدينية الصحيحة وتصحيح المفاهيم المغلوطة.
برامج شاملة
من جانب آخر، لم تتوقف الدار عند حدود إصدار الفتاوى، بل قامت بتنفيذ برامج تثقيفية وتوعوية للشباب والمجتمع. وشملت هذه البرامج ندوات ومحاضرات في الجامعات والمدارس، بالإضافة إلى مسابقات علمية وثقافية لتعزيز فهم الدين الصحيح، ودعم المواهب الشابّة في الترجمة والبحث الشرعي، وتقديم منح تدريبية للأكاديميين الجدد. وقد أسهمت هذه المبادرات في بناء جسر تواصل فعال بين المؤسسة الدينية وفئات المجتمع المختلفة، وخاصة الشباب، مما عزز من دور دار الإفتاء كمؤسسة قادرة على التفاعل مع المتغيرات المجتمعية.
كما شهدت السنوات الأخيرة طفرة إعلامية كبيرة لدور دار الإفتاء، حيث تم إعداد برامج إذاعية وتليفزيونية تثقيفية حول الفتوى والقضايا المجتمعية المعاصرة، وإصدار نشرات ومجلات دورية تبسّط الأحكام الشرعية بأسلوب سلس وواضح. كما حرصت الدار على استضافة خبراء وأساتذة دين لتوضيح الرؤية الشرعية للمسائل الجديدة، بما يسهم في مواجهة الشائعات وتصحيح المفاهيم الخاطئة بين المواطنين.
وأثبتت دار الإفتاء كفاءتها العالية في التعامل مع القضايا الطارئة والأزمات المختلفة، فقد أصدرت أكثر من ثلاثة آلاف فتوى خلال جائحة كورونا وحدها، تناولت الإجراءات الوقائية وسبل أداء العبادات في ظل الأزمات الصحية، إلى جانب الفتاوى المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، مثل المعاملات البنكية والرقمية، فضلاً عن المسائل الفقهية المرتبطة بالمرأة والأقليات، مما يعكس مرونة الدار في مواجهة التحديات المعاصرة دون التفريط في الثوابت الشرعية.
ومن أبرز إنجازات دار الإفتاء خلال هذه السنوات الطويلة، برنامج التأهيل الشرعي للمفتين، الذي شمل أكثر من 500 متدرّب ومتدربة.
وتضمنت برامج التأهيل دورات مكثّفة في علوم الفقه وأصوله، مع تدريب عملي على استخدام الوسائل الرقمية الحديثة في إصدار الفتاوى، إضافة إلى وِرَش عمل حول أساليب التواصل الفعّال مع الجمهور عبر المنصات الإعلامية. وأسهم هذا البرنامج في رفع كفاءة المفتين وضمان جودة الفتوى المقدمة للمواطنين، بما يرسخ الثقة في الدور الشرعي للدار.
ولم تقتصر جهود دار الإفتاء على الفتوى والتدريب فقط، بل امتدت لتشمل البحوث والدراسات العلمية المتعمقة، حيث أصدرت الدار أكثر من 200 دراسة شرعية تناولت مواضيع متنوعة، مثل الفقه المقارن بين المدارس الإسلامية، والقضايا المعاملاتية المالية الحديثة، والعلاقات الأسرية والاجتماعية في ضوء الشريعة. وتوفر هذه الدراسات مرجعًا هامًا للباحثين والمهتمين، وتثري المكتبة الإسلامية المعاصرة بالمعرفة الدقيقة والموثوقة.
التعاون الدولى
وعلى المستوى الدولي، حرصت دار الإفتاء على تعزيز التعاون مع المؤسسات الدينية والفكرية حول العالم، من خلال توقيع اتفاقيات تعاون مع مراكز فقهية في الدول العربية والأوروبية، والمشاركة في مؤتمرات دولية حول الفتوى وتطوير العمل الشرعي، بالإضافة إلى تقديم الدعم الاستشاري للجهات الإسلامية خارج مصر، لتعزيز صورة الإسلام الوسطي المعتدل ونشر منهجه الحضاري.
الإرث الفقهي
ويشكِّل الإرث الفقهي للدار أحد أبرز ملامح تميّزها، إذ تحتفظ بسجلات رسمية يبلغ عددها مئتين وخمسة سجلات تضم ما يقرب من 115 ألف فتوى، وهو عدد يجعل الدار صاحبة أكبر أرشيف فقهي متصل في العالم الإسلامي. وقد خضع هذا الأرشيف لعملية حفظ ورقمنة دقيقة ليصبح متاحًا للباحثين، وليعكس تطور الفتوى في مصر على مدار قرن كامل.
ولم يقتصر الأمر على حفظ الإرث، بل عملت الدار على تطوير موسوعات فقهية كبرى منها موسوعة الفتاوى الإسلامية التي تضم أربعة وخمسين مجلدًا، وموسوعة الفتاوى المهدية التي تشمل عشرين مجلدًا، إضافة إلى عشرات الإصدارات المتخصصة التي تخدم البحث العلمي وتدعم الوعي الديني الرشيد.
الهيكل الإداري
وتقوم الدار على هيكل إداري متكامل يضم تسع عشرة إدارة تغطي جميع الأنشطة الشرعية والعلمية والخدمات المجتمعية. وتشمل إدارة المراجعة الشرعية والتنسيق العلمي التي تتولى التدقيق في الفتاوى، وإدارة استطلاع الأهلة ومعرفة المواقيت المسؤولة عن تحديد بدايات الشهور القمرية، وإدارة حوار المعنية بمعالجة الشبهات وتصحيح المفاهيم، وإدارة الإرشاد الزواجي التي تعمل على دعم الأسرة وحل المشكلات الزوجية.
كما تعمل إدارة الفتوى الهاتفية على استقبال أسئلة الجمهور من داخل مصر وخارجها، وتتولى إدارة الفتاوى المكتوبة مهام الرد على الأسئلة الرسمية الواردة من الهيئات القضائية والمؤسسات، بينما تُعنى إدارة التوفيق والمصالحات بحل النزاعات الاجتماعية، وتختص اللجنة العليا لفتاوى الأحوال الشخصية بقضايا الأسرة الحساسة. وتقوم إدارة التدريب بتأهيل العاملين في مجال الإفتاء، وتقدم إدارة التعليم عن بُعد برامج إلكترونية متخصصة لطلاب العلم في عدد من الدول.
وتضم الدار أيضًا إدارة الإصدارات المسؤولة عن إنتاج الكتب والمراجع الشرعية، وإدارة الفروع الفقهية التي تتناول القضايا المستحدثة، وإدارة الحساب الشرعي التي تختص بالمواريث والزكاة والمعاملات المالية، وإدارة فتاوى المحاكم والمؤسسات التي تتعامل مع القضايا القانونية. كما تشمل المنظومة إدارة الترجمة التي تقدم محتوى الدار بلغات مختلفة، ومركز سلام لدراسات التطرف الذي يدرس الظواهر المتطرفة فكريًا، وإدارة المؤشر العالمي للفتوى التي ترصد حركة الفتوى عالميًا.
وبفضل كل هذه الجهود المتكاملة على مدى 130 عامًا، استطاعت دار الإفتاء أن تؤسّس إرثًا معرفيًا مستدامًا، يجمع بين الأصالة والتجديد، ويخدم المجتمع المصري والعربي على حد سواء،وتشير الإحصاءات إلى أن عدد المستفيدين من الفتاوى والخدمات الرقمية تجاوز 25 مليون مستفيد منذ إطلاق المنصات الرقمية، ما يعكس نجاح استراتيجية الدار في الوصول إلى أوسع قاعدة من الجمهور.
نموذج فريد
اليوم، وبعد 130 عامًا من العمل الدؤوب، تثبت دار الإفتاء المصرية أنها نموذج فريد لمؤسسات الفتوى حول العالم، تجمع بين المعرفة الشرعية الدقيقة والوسائل التكنولوجية الحديثة، وتقدم نموذجا متكاملا للعمل الديني المعاصر، قادرا على التفاعل مع التحديات المجتمعية وتلبية احتياجات المواطنين، مع الحفاظ على الثوابت الدينية والقيم الإسلامية الأصيلة.





























