هناك مساحات من الروح لا يملؤها شيء، لا يُصلحها علمٌ وحده، ولا نجاحٌ وحده، ولا رفاهيةٌ مهما عظمت، مساحات لا يُداويها إلا صوت القرآن. ولهذا حين نتحدث عن “دولة التلاوة” فنحن لا نتحدث عن برنامج أُسري فحسب، بل نتحدث- بكل صدق- عن مشروع نهضة، مشروع وطن.
نعم، دولة التلاوة ليست فكرة وعظية، ولا عادة روحانية، بل هي قانون حياة يعيد تشكيل الإنسان من الداخل، والإنسان هو اللبنة الأولى في بناء مصر قوية، رحيمة، متماسكة، لا تستهلكها الفوضى ولا يهزمها اليأس.
إلى كل مصرى، لأن بيتًا بلا قرآن يشبه مدينة بلا أمان، ولأن مجتمعًا لا يعيش مع القرآن، سيعيش بالصدفة، وسيُقاد بالعشوائية، وسيفقد تدريجيًا أخلاقه وهُويته وتوازنه. والله تعالى يقول: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾. والروح هنا ليست تشريفًا لفظيًا، بل حقيقة، القرآن روحٌ تُحيي الأمم، كما تُحيي القلوب، الأسرة التي تُقيم دولة التلاوة، أسرةٌ محصَّنة من الداخل حين يجتمع الزوج والزوجة والأبناء على مائدة القرآن، تختفي كثير من القلوب المكسورة، والضغوط الثقيلة، ونوبات الانفعال والصراخ
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ بيتًا يبدأ يومه بهداية “الأقوم” لا يعرف الفوضى، ولا يُربّى على الغضب، ولا تبنيه الصدفة، الأسر التي تقيم دولة التلاوة تُنجب أبناءً أسوياء، والأبناء الأسوياء هم مشروع نهضة مصر الحقيقية، البيت الذي يتلو القرآن بيتٌ يُربّي الرجل والمرأة معًا. في زمنٍ تتسارع فيه الضغوط الاقتصادية والنفسية، تتوتّر العلاقات الزوجية بسهولة.
والقرآن ليس فقط كتاب أحكام، بل كتاب: الرحمة، السكينة، الصبر، العفو، الحلم، ضبط اللسان، بناء العلاقات.
أليس عجيبًا أن أول وصف للزواج في القرآن هو: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾؟ لم يقل قوة، ولا سيطرة، ولا غلبة، بل مودة ورحمة.
والبيت الذي يتلو فيه الزوج آيتين قبل النوم، وتستمع إليهما زوجته، وينصت إليهما أولادهما، هو بيتٌ تنبت فيه الرحمة كما تنبت الزهرة في الصخر.
دولة التلاوة، مشروع مكافحة للتطرف والانحلال معًا كثيرون يتصورون أن التطرف لا يُقاوَم إلا بالقوانين، والانحلال لا يُواجَه إلا بالدورات أو الوعظ.
لكن الحقيقة أن القرآن هو الميزان الذي يعيد الإنسان إلى الاعتدال: يعالج الغلو: قال تعالى: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾. ويُهذّب التفلت، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.
حين تنتشر دولة التلاوة في البيوت، يتراجع الغلو، وينكمش الانحلال؛ لأن القرآن يصنع العقل الرشيد، والقلب السليم، والضمير الحي.
ابدؤوا اليوم، اجعلوا القرآن صوت البيت، ونَفَس البيت، وروح البيت. علّموا أبناءكم أن مصر لا تقوم بالحديد والخرسانة وحدها، بل تقوم- قبل كل شيء- ببيوتٍ يُضيئها القرآن، وبقلوبٍ تسمع، وتتفكّر، وتلين. إن “دولة التلاوة” ليست درسًا، إنها منهج حياة.






























