أيام قليلة ويبدأ شهر ديسمبر الذي يشرف باليوم العالمي للغة العربية الذي يحتفي به أبناء لغة القرآن الذي شرفها الله بكلامه العظيم الذي تكفل بحفظه إلى يوم القيامة
ستظلّ لغة القرآن ؛لغتنا العربية شاخصة في ضمير هذا الكون ،عفيّةً أبيةً تأبى الانزواء أو التراجع عن عبقريتها وقدُدسيتها مهما تكالبت عليها المحن ،ومهما تعالت أصوات الخفافيش من هالوكي العامية هنا أوهناك ،فحاضرة بأنوارها حضور الزمن ،فهي لغةُ أشرف كتاب ،ولسانُ أبلغ بيان لمن ” اُوتيَ جوامعَ الكَلِم ” (صلّى الله عليه وسلّم) ،وهي التي كانت وعاءً لحضارة زاهية في الماضي يوماً ما ،لذا لن يُعجزها أن تستجيب لمواضعات الحضارة المعاصرة ،ومفرداتها عبر العصور والأزمنة إلى أن يشاء الله ،لِمَا تميّزت به من :”مُرونة، واتّساعٍ، وتعدُّدٍ في الوسائل، وقابلية للنمو”.
وقد عقد القدماء من علماء العربية ،فصولاً مستفيضة في كتبهم لبحث عدة مسائل من اللغة ،تدور كلها حول ظاهرة واحدة هي نمو اللغة في ألفاظها ،وأساليبها. ووسائل هذا النمو ،كالقياس ،والاشتقاق، والنحت ،والارتجال ،وغيرها ممن فصّلَ القولَ فيها الدكتور إبراهيم أنيس الذي يرى أن هذه الطرائق ـ وإن لم يربط القدماء بينها ،فإنها ” تمثل طرائق مثلى لنمو اللغة ،وأنها هي التي أمدتنا بفيض زاخر من الألفاظ والأساليب ،وجعلت من لغتنا العربية أغزر اللغات السامية مادة، وأكثرها تنوعاً في الأساليب وأدقها في القواعد “.
ويُعد الاشتقاق: من أهم الروافد التي تمد اللغة العربية بما تريد من ألفاظ عن طريق هذا التوليد من (المادة الواحدة) كما نرى في مادة (كَتَبَ) التي يتولد منها :كانت ،مكتوب ،اكتب، كتابة ،كتاب ،كاتبات..الخ ،ومن أجل هذا تُوصف اللغة العربية بأنها لغة اشتقاقية ،لأنها تتوصل إلى كلماتها عن طريق استخدام المادة بجميع صور الاستخدام.
وبالنحت: وهو استخراج كلمة واحدة من كلمتين ،أو أكثر عن طريق الاختزال والاختصار في الكلمات والعبارات ؛تصبح اللغة العربية وعاءً فنياً لحضارات معاصرة، ولم تخسر أو تتراجع أمام اللغات الأخرى. فإذا كان القدماء قد وقفوا عند هذه الأمثلة للنحت :
(بَسْمَلَ) في: بسم الله الرحمن الرحيم.
و(حَوْقَلَ) في: لا حول ولا قوة إلا بالله .
و(حَيْعَلَ) في: حيّ على الصلاة ،حيّ على الفلاح.
و(عَبْدَرِيّ) في: فلان من بني عبد الدار.
و(عَبْشَمِيّ) في: فلان من بني عبد شمس.
إذا كان القدماء قد وقفوا عند الأمثلة السابقة، فإن المحدثين وقفوا عند أمثلة جديدة معاصرة ،رغبة في التوسع اللغوي ،وتأكيداً لصلاح اللغة العربية لكل زمان ومكان ،وصلاحها لتكون وعاءً لحضارات معاصرة وذلك مثل:
(كَلْغَوِيّ) في: من ينتسب إلى كلية اللغة العربية .
(دَرْعَمِيّ) في: من ينتسب إلى كلية دار العلوم .
وهو توسع لغوى للعربية يتفق والاتجاهات العالمية الحديثة في اختصار الكلمات والجمل ،فنجد مثل ذلك في الإطلاقات السياسية، والاجتماعية في المؤسسات الدولية والعالمية مثل:
(اليونيسيف) في: صندوق الأمم المتحدة للطفولة.
(الفيتو) في : حق إيقاف القرارات .
(الإيسسكو) في: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.
(الفيفا) في: الاتحاد الدولي لكرة القدم .
(اليونسكو) في : منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة.
ويعد المجاز رافداً مهماً من روافد التنمية اللغوية في وضع المصطلحات الجديدة، على نحو ما نرى في هذين الأنموذجين المعاصرين: الطائرة: تدل في الأصل على الفرس الشديد. والسيارة : تدل في الأصل على القافلة. ثم أطلقنا حديثاً على: الآلتين المستحدثتين اللتين تجوبان اليوم الأرض والفضاء ..
وهو دليل قاطع على أن العربية لم تتخلف يوماً عن التقدم الحضاري المعاصر، أو استيعاب حضارات جديدة سوف تظهر في الوجود مع تعاقب الأجيال. ودليل حق على أن اللغة العربية على مر العصور لم تعش منعزلة عن الوجود الإنساني من حولها بلغاته المتبانية ،بل عاشت في حالة ” تفاعل” دائم كما رأينا؛ أخذاً وعطاءً، وبخاصة بالنسبة للمستجدات، والمخترعات.
والاقتراض بهذا المفهوم الذي نحن بصدده في هذه القراءة لأدبيات العربية يشمل ما أسماه الدكتور شاهين بالتدخيل ،كما يشمل التعريب ،وهو بذلك يعد من أوسع الأبواب لتنمية اللغة. حيث يقوم على أخذ كلمات ،أو جمل من لغات الآخرين، وذلك من جانب أفراد ،أو جماعات ،أو هيئات علمية ،كالمجامع اللغوية وأمثالها. واقتراض الألفاظ في أغلب حالاته يكون وليد الحاجة حيناً ،أو الإعجاب حيناً آخر. وقد بلغ من إعجاب الفرس والترك بلغة العرب أن اقتبسوا معظم كلماتهم من اللغة العربية ،ذلك لأن هاتين الأمتين طلقا تحت تأثير الثقافة العربية عدة قرون.
ولم يقف الأمر عند حدود هاتين الأمتين من الإعجاب باللغة العربية، فقد وصل الإعجاب إلى الألمان الذين بُهروا بسحر العربية، فأخذوا عنها الكثير من الكلمات كما أكدت المستشرقة الألمانية ” زيغريدهونكه ” في قولها: ” إن في لغتنا كلمات عربية عديدة ،وإننا لندين ،والتاريخ شاهد على ذلك ـ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب ،وكم أخذنا عنهم من حاجيات وأشياء زينت حياتنا بزخرفة محببة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب.
ومن فضول القول أن نذكر في هذا المقام أن اللغة العربية من أغنى لغات العالم بالمفردات ،والمترادفات ،وهي ــ على الأقل – أغنى بمفرداتها من مجموعة اللغات السامية ،وقد انقرضت كلها ــ على وجه التقريب ولم يعد منها إلا آثار تاريخية في النقوش والمخطوطات ،وهى: الكنعانية ،والفينيقية ،والعبرية ،والآرامية ،والنبطية، والبابلية ،والكلدانية ،والسريانية ،والهيروغلوفية ،والحبشية ، ويكفيها أنها استوعبت في ظل القرآن كثيرًا من الحضارات المتباينة كالهندية ، والفارسية ، واليونانية ,وغيرها ، لتجعل من كل ذلك حضارة واحدة ؛ حضارة (اقرأ ) الإنسانية .
ولا يدل على مرونة اللغة العربية، واتساعها، وشموليتها، كثرة مفرادتها، التي تعد بمئات الآلاف فحسب ، ولكن يدل على ذلك أيضاً :كثرة الروافد، والطرائق التي تغذى اللغة العربية، وتسمح لها بالتوليد، والإضافات كالقياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب، وغيرها مما أشرنا إليه من قبل. وهذا يعنى أنها لغة مفتوحة للتواصل الدائم على مدى العصور، وأن باب الاجتهاد فيها لم يغلق ،ولن يغلق إلى أن يشاء الله تعالى.






























