يهلّ علينا شهر ديسمبر- بمنازله التي تؤكد للدنيا عالمية لغة القرآن- لتشهد الدنيا في أيامه ولياليه مجالس وندوات ولقاءات المحبين العاشقين للغة الضاد ،من الذين آمنوا بحقيقة الانتماء الوطني الذي يؤكده الحفاظ على الهويّة / اللغة الأم/ الوجود الحقيقي لنا أصحاب اللسان العربي، وضرورة الدفاع عنها بكل ما يملك المُحب ،على مستوى الصراع الحضاري الأممي الذي يعيشه العالم في المعاصرة ،لكنني على يقين أنّ أصوات هؤلاء المحبين لن تُبحّ بعد ،وسوف تظل عفيّةً تُجلّ إسلامها في لُغتهم / هويتهم ،ذاتهم/ وجودهم ،وتضعها في منزلة رفيعة عزيزة من حاضرها ،وإنْ تعثّر لسان بنيها قليلا، فالقرآن ببيانه وعذوبة وفصاحة نظمه حيٌّ في القلوب ،ولسان أفصح نبيٍّ حبيبنا المصطفى (صلّى الله عليه وسلم) يُفقّه قولنا، وهذا يكفي لُغتنا أن تظل شاخصة في ضميرهذا الكون ،عفيّةً أبيةً تأبى الانزواء أو التراجع عن عبقريتها وقدسيتها مهما تكالبت عليها المحن ،أو نالت العجمة من بعض بنيها ،بعد أنْ باتت هذه الأصوات الجوفاء تتعامل اليوم مع ما يأتينا من الغرب من منظور ثقافة التّيس الغريب، التي تذكرنا بالمثل الشعبي العبقري “عَنز الشّعيب ما يُحبّ إلّا التّيس الغريب” فكُتِبَتْ علينا الغلبة التي تستوقفنا أمام رأي ابن خلدون الذي يقول فيه : “إنّ المغلوبَ مولعٌ بمحاكاة الغالب ،ويوشك أنْ يندمج المغلوب في بنية القوي ،ويفنى فيه عادةً وعملًا ولغةً وأدبًا …” ،وهو ما رأيناه في كل شيء حولنا ، محلات تجارية ترفع اللغة الأجنبية عنوانًا لها ،مؤسسات قومية ،علمية وثقافية ؛حكومية وأهلية لا تعترف إلّا بلغة الآخر ،أطفال وشباب الأمة انصرف كثيرًا منهم عن لغة أجداده ،حتّى استعجمت الألسن العربية ،وضاقت أكثر الأراضي العربية باللسان العربي ..حديثًا ،وحوارًا ،وعملًا، وقد رأى العَالَم عجز رئيسة مجلس النواب البحريني السابقة المُطبعة مع الكيان الصهيوني فوزية بنت عبدالله زينل عن قراءة عبارة واحدة بالعربية (انتماءنا)!، بينما عقلاء الأمة لم يرفضوا الآخر ،ولم يعزفوا عن لغته ،ولكن جريمتهم أمام لئام الأمة ،دعوتهم فقط إلى :اعرف لغتك/ هويتك/ ذاتك، لا تنصهر في هذا الآخر ،ولا تصل للذوبان أمامه ،ولا تنكره ،بل توَقّف أمامه محاورًا بكل عزّة وموضوعية وتَفَهُّم ،وتفعيل علاقة الأخذ والعطاء ،لا علاقة التهوين أو التهويم ،أوالانكفاء .
لنتذكّر جميعًا ياسادة أنّ الأمة التي لا تُحافظ على لغتها إنما تُفرط في عِرضها/ في هُويّتها، وتفقدُ ما ضيها، وتخسر مستقبلها، وكما يقول الرافعي: “ماذلّت لغةُ شعب إلّا ذلّ، وما انحطت إلّا كان أمره في ذهاب وإدبار”.
وما علينا إلّا أن نُجلّ لغتنا ماحيينا فهي لغة قرآن ربنا سبحانه من علّم بالقلم ،لغة العبادة ،نحافظ عليها عزيزة قوية فصيحة مُبينة مااستطعنا إلى ذلك سبيلا‘ فعيب علينا أن ننتهك حرمتها بلغة أخرى ،وقد أُعجب بها الآخرون من غيرأهلها ،ومن غير الملة كما أكدت المستشرقة الألمانية “زيغريدهونكه” في قولها: “إن في لغتنا كلمات عربية عديدة ،وإننا لندين ،والتاريخ شاهد على ذلك ـ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب ،وكم أخذنا عنهم من حاجيات وأشياء زينت حياتنا بزخرفة محببة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب ” .
وها هو ذا المستشرق الأمريكي ،البلجيكي الأصل الدكتور الصيدلي والمؤرخ جورج ألفريد ليون سارتون ،الشهير بـ”جورج سارتون” يدلي بشهادة تاريخية في حقّ العربية ووحي نبيها الكريم بعد أن فُتن بسحر بيانها وقدسيتها: “وهبَ الله اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أنْ تُدوّن الوحي أحسن تدوين. بجميع دقائق معانيه ولُغاته ،وأنْ تُعبّر عنه بعبارات عليها طلاوة، وفيها متانة..”. نعم طلاوة ،وحُسنٌ ،وبهجةٌ كما قالت الألمانية زغريد هونكة ،ورونق ، ونضارة وعذوبة ،وملاحة في الكلام تؤثر القلوب ،فهي اللغة التي نزل بها جبريل عليه السلام – على سيد الخلق– على مدى ثلاثة وعشرين عامًا ،لم يضع منها حرفٌ واحدٌ ،لأنّ الله سبحانه قد تعهّد بحفظ كتابه الخالد ؛القرآن الكريم كما نصّت الآية الكريمة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر:( 9 ) ..
وهذه الحماية الإلهية تمتد إلى اللغة العربية الفصحى وِعاء القرآن الكريم ،ولا حفظ للمحتوى الذي تكفّل به الله إلا بحفظ الوِعاء الذي يحويه ،وهو شرف عظيم تبوأته اللغة العربية الخالدة وتفردت به دون الكتب السماوية الأخرى ،لأن تكون لغة الكتاب المنزّل من عند الله ،والذي ظلّ حتى اليوم مكتوبًا باللغة العربية التي نزل بها ،وهذه السمة تجعل للغة العربية مكانةً روحية جليلة ،لا في نفوس العرب فحسب– بل في نفوس المسلمين جميعًا على ظهر البسيطة، بينما انقرضت كثير من مجموعة اللغات السامية ،وقد انقرضت كلهاــ على وجه التقريب ولم يعد منها إلا آثار تاريخية في النقوش والمخطوطات ،مثل :الكنعانية ،والفينيقية ،والعبرية ،والآرامية ،والنبطية، والبابلية ،والكلدانية ،والسريانية ،والهيروغلوفية ،والحبشية ، بل يكفي العربية أنها استوعبت في ظل القرآن الكريم كثيرًا من الحضارات المتباينة كالهندية ،والفارسية ،واليونانية ,وغيرها ،لتجعل من كل ذلك حضارة واحدة ؛ حضارة (اقرأ) الإنسانية .
حضارة (اقرأ) التي أرى أنه من كمال عبادة المسلم أن يذود عنها الأدعياء قبل الأعداء ،هؤلاء الذين أقبروها على موائد اللئام من سدنة العجم ،وباعوها بكلم بخس،وما زالوا في تلك الملاهي والسّرادقات التي تُنتهك فيها براءة ،وعفة ،وفصاحة ،وإعجاز لغة الخلود ؛لغة القرآن الكريم ،تناسى أكثر الجمع أننا ” أبناء (أمة اقرأ) ،وغاب عنهم مكانة لغتهم القدسية وقد رأيناها اليوم وقد انداحت بجلالها ، وبيانها ،وألفظها ،ومعانيها ،وجرسها ،شرقًا وغربًا ،باسطةً شاعريتها الساحرة ، وسلطانها الروحي على أصقاعٍ من الأرض مترامية ومتباينة ،آخذةً بعبقريتها وتراثها الفريد التليد حبّات القلوب ،وخطرات النفوس ،وخفقات الضمير الإنساني على ظهر هذه البسيطة ،لترتاد الإنسانية بلسانها العربي المبين ،وعوالمها الإيمانية الرحبة ،وحضارتها الزاهرة الزاهية ،جنبات هذا الكون في أسمى آيات التوهج مِمّا يشهده العالم اليوم على أرض أفريقيا برعاية مصرية ،وشرفية كريمة لحكيم الأمة فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب- شيخ الأزهر- حفظه الله؛ آخرها في نواكشوط العاصمة الموريتانية؛ عن لُغتي هويتي ..عن لغتي ذاتي ووجودي ،أعني ما سبق.






























