يُعدّ الإعلام الدعوي أحد أهم المسارات الفكرية والتربوية التي تسهم في تشكيل وعي الإنسان المعاصر، وصياغة منظومته القيمية، وتعزيز قدرته على التفاعل الإيجابي مع مجتمعه.
ولأهمية هذا الموضوع كان عنوان المؤتمر العلمي الدولي السادس لكلية الإعلام جامعة الأزهر والذي انعقد تحت رعاية فضيلة الامام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر. برئاسة د. رضا عبدالواجد- عميد الكلية- ومشاركة عدد كبير من خبراء واستاذة الإعلام في مصر .
ومع تطور أدوات الاتصال وتغيّر أنماط تلقّي المعلومات، لم يعد الخطاب الدعوي مجرد موعظة تُلقى من فوق منبر، بل أصبح صناعة متكاملة تتطلب رؤية واعية، ومهارة إعلامية، ودراية عميقة بالنفس البشرية واحتياجاتها. ومن هنا جاء اهتمام المؤسسات الأكاديمية، وعلى رأسها كلية الإعلام بجامعة الأزهر، بتسليط الضوء على هذا الحقل الحيوي، عبر مؤتمرات تناقش دوره الحقيقي في بناء الإنسان وبناء المجتمع.
إنّ الإنسان هو محور عملية التنمية، ولبُّ مشروع الإصلاح، وأساس النهضة في أي أمة. ولا يمكن بناء الإنسان من دون خطاب إعلامي رشيد، يُعيد الاعتبار للقيم، ويغرس مبادئ الرحمة والعدل والتسامح، ويقدّم القدوة الحسنة بلغة معاصرة يفهمها الجمهور. فالإعلام الدعوي ليس معنيًا فقط ببيان الأحكام، وإنما هو معني– قبل ذلك وبعده– بتشكيل السلوك وتحرير العقل من أسر الفوضى والسطحية والتطرف، وفتح آفاق التأمل والفهم الصحيح للدين.
لقد أصبح الإعلام اليوم بمثابة “المدرسة الكبرى” التي يتعلّم منها الشباب أكثر مما يتعلمون من الكتب والمناهج. فهو الذي يصنع الصورة الذهنية، ويعيد بناء المفاهيم، ويهبط بالإنسان أو يرفعه، بقدر ما يحتويه من صدق أو زيف، بنّاء أو هدّام. وإذا كان الخطاب الدعوي التقليدي قد ظلّ طويلًا حبيس الإطار الوعظي، فإن الإعلام الدعوي في صورته الحديثة يمثّل نقلة نوعية؛ لأنه يوظف أدوات التأثير، ويستثمر الصورة، الدراما، الحكاية، المناظرة، التفاعلية الرقمية، ليصل إلى الجمهور بلغة قريبة من روحه وعقله واحتياجاته.
ولكي ينهض الإعلام الدعوي بدوره في بناء الإنسان، لابدّ له من مجموعة من الأسس. أولها الصدق العلمي، فلا دعوة بغير علم راسخ، ولا خطاب بغير تحقيق ودليل. وثانيها الموضوعية، فالداعية الإعلامي ليس طرفًا في معركة، وليس صوتًا للتجريح أو الخصومة، وإنما هو صوت للتبيين والإصلاح. وثالثها: الاعتدال والوسطية، وهي سمة أصيلة في تراث الأزهر، الذي شكّل عبر تاريخه حصنًا ضد الغلو والتطرف. أما الأساس الرابع فهو احترام عقل المتلقي، فالعصر لم يعد يحتمل خطابًا يعتمد على الوعظ العاطفي وحده، بل يحتاج إلى خطاب عقلاني يحترم العلم والإنجاز ويخاطب الإنسان لغةً ومنطقًا ودليلًا.
كذلك يتطلب الإعلام الدعوي المعاصر القدرة على إدارة الاختلاف، وهي مهارة تأسيسية في بناء الإنسان الواعي. إذ لا يمكن بناء مجتمع ناضج دون الاعتراف بتنوع الآراء والاجتهادات، ودون القدرة على الحوار الهادئ، والاستماع الجيد، والابتعاد عن لغة الإقصاء. ومن هنا يبرز الدور الكبير للإعلام الدعوي في تجسير الفجوة بين التيارات الفكرية، وإشاعة ثقافة التراحم، ونزع فتائل الفتنة قبل اتساعها.
وأمام التحديات المتسارعة التي يعيشها العالم اليوم، من صراعات معرفية، وانفجار معلوماتي، وتنامي ظاهرة الشائعات، تفقد المجتمعات بوصلتها إذا غاب عنها خطاب دعوي مستنير. فالشباب يحتاجون لمن يأخذ بأيديهم نحو الفهم الصحيح للدين، ولمن يقدّم لهم نموذجًا واقعيًا للإنسان المتدين الذي يوازن بين الروح والعقل، بين الإيمان والعمل، بين العبادة والعمارة، دون إفراط أو تفريط.
إن مؤتمر كلية الإعلام بجامعة الأزهر حين يرفع شعار “الإعلام الدعوي وبناء الإنسان” فإنه لا يناقش قضية نظرية، بل يناقش مستقبل أمة. فهو يدعو إلى تطوير الخطاب الدعوي ليكون خطابًا متوازنًا لا يستسلم لضجيج المنصات، ولا ينجرّ إلى صراعاتها، بل يسعى إلى بناء الإنسان الحر، الواعي، القادر على التمييز بين الحق والباطل، وبين ما ينفع وما يضر. إنه خطاب يراهن على الإنسان باعتباره الثروة الحقيقية، ويؤمن بأن التربية الوجدانية والفكرية هي حجر الزاوية في نهضة الأوطان.
ويبقى الإعلام الدعوي رسالة سامية، إذا حملها أهل العلم المخلصون، وجددوا أدواتها، واستثمروا طاقات الشباب، يمكن أن تُسهم في صناعة جيل قادر على حمل الأمانة، وصون الهوية، وبناء مستقبل يليق بقيمة الإنسان .






























