إن صناعة العقل المستنير، في منهج “الجناب المعظم”، لم تكن عملية حشو معرفي، بل هندسة فكرية تقوم أولاً على بناء الجسر المعرفي بين الإيمان والعمران ، فقد أدرك الجناب المعظم أن قوة الأمة تكمن في وزن عقول أبنائها، لا في كثرة عددهم، ولذا كان يغرس في النفوس تلك المعادلة العبقرية: أن التفكر في ملكوت الوجود عن طريق اسم الله الواسع هو في جوهره عبادة، وأن إعمال العقل لاكتشاف السنن الكونية هو طريق الهداية والتزكية، وبهذا التأصيل، يتحول العلم من مجرد أداة نفعية مادية إلى نور يضيء درب الحضارة، مُؤسساً لعقل عميق يربط سماء الروحانية بأرض الواقع، ليخرج جيلاً قادراً على البناء والابتكار دون أن يفقد اتزانه الروحي والأخلاقي.
فكان المنهج النبوي يرسّخ أن التفكر هو أول سلم الإيمان، فكانت دعوته تُوجّه العقل إلى النظر في كتاب الله المنظور قبل كتاب الوحي المسطور، فالعقل عند حضرته صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد أداة مادية تُعنى بالنفع وحده، بل كان لطيفة نورانية وظيفتها الهداية إلى الله.
والمثال الأوضح على ذلك، موقفه مع الأعرابي الذي جاء يسأله عن نسب ابنه الذي وُلد بغير لون أبيه، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم، بمنطق أقرب إلى المنهج العلمي: “هل لك من إبل؟” قال: نعم. قال: “فما ألوانها؟” قال: حُمر. قال: “هل فيها من أورق (رمادي)؟” قال: نعم. قال: “فأنى يكون ذلك؟” قال: لعلّه نزعه عرق. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: “وهذا لعله نزعه عرق”، هنا، لم يكتفِ الجناب المعظم بالرد العاطفي، بل وجه العقل إلى قانون الوراثة وعمق الأسباب الكونية، مُعلماً إياه أن الظواهر لها أصول، وأن حكمة الله تتجلى في سنن الوجود، هذا هو العقل الذي يرى الوجود جسراً بين الدنيا والآخرة، ولا يرضخ للخرافة.
ومن مظاهر صناعة العقول عند الجناب المعظم العمل على تنمية العقل النقدي والإبداعي، فلم يكن في منهج الجناب المعظم ما يُسمّى بـ “العقل المُستسلِم”، بل كان يشجع على إعمال الرأي والاستنباط والاجتهاد الرشيد، مبتعداً عن العقل السطحي المستهلك الذي يكتفي بتقليد ما سبقه، لقد ربّى جيلاً قادراً على الإضافة والابتكار في شؤون الحياة والعمران.
ومن أمثلة ذلك الرائعة، في غزوة الأحزاب، حين استشار أصحابه في مواجهة عدو يفوقهم عدداً وعتاداً، لم يفرض رأياً، بل فتح باب التفكير الحر، فجاء سلمان الفارسي بفكرة حفر الخندق، وهي تقنية لم تكن معروفة لدى العرب، لكنها كانت ضرورية في مواجهة جيش كبير، فتقبّل الجناب المعظم هذا الاقتراح العبقري الذي قلب موازين القوى وحوّل ضعف المسلمين إلى قوة دفاعية لا تُقهر، هذا الموقف لا يعلم الصحابة التخطيط الحربي فحسب، بل يغرس فيهم الثقة في قيمة الرأي المستنير، ويعلمهم أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، إنها دعوة صريحة للعقل المنتج للمعرفة، لا للعقل المقلد.
ومن عظمة تلك الصنعة الثقيلة عند الجناب النبوي، أن تلك الصناعة لا تتم عبر المناهج الدراسية الجافة، بل عبر القدوة الحية، ونماذج المحاكاة، التي تحوّل المبادئ إلى سلوك وقيمة، فكان يُجسّد المنهج القويم في كل تفصيل، فالعقل المطبوع بجمال الفكر لا بد أن يقترن بجمال السلوك.
ويتجلى هذا في تربية الأطفال والناشئة، فقد علم الطفل عمر بن أبي سلمة كيف يأكل ، فقال له “يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك”، هذا التوجيه البسيط هو منهج متكامل: دعوة لذكر الله (الجانب الروحي)، والانضباط في السلوك (الجانب الأخلاقي)، والتزام الحدود (الجانب الاجتماعي)، فهو يصنع عقلاً منظماً يوقر النظام في تفاصيل حياته، فالعقل الذي يتربى على هذه الطريقة هو عقل يُعمل فيه الجمال في التفكير وفي آداب التخاطب، وهو عقل لا يخاف من النقد المنهجي السديد، لأنه تعلم أن نقض الأفكار يجب أن يتم بالرصانة والتدقيق، بعيداً عن التحريض والأحكام المسبقة، فبهذا المنهج الشمولي، كان “الجناب المعظم” يصنع أمة عُرفت في التاريخ بأنها أمة العقل والإيمان والعمران.
في الختام، تتجلى حكمة الجناب المعظم في صناعة العقول كـمنهج متكامل للبناء الحضاري، فقد ربط بين الإيمان والابتكار، وأسس العقل النقدي المنتج، ورفع شأن القدوة والقيم، ليقدم لنا الوصفة السرية لنجاح الأمم.






























