قضية الانتماء الوطني قضية وجود ،وعزة وطن ،وتحقيق للإنسانية بكل ملامحها الحضارية ،ذلك أنّ الانتماء للوطن إيمان وعقيدة ،وشعور إنساني عميق ،يتمظهر في إجلاله أرضًا وعِرضًا ،تاريخًا وثقافة ،دستورًا ومجتمعًا ،تضحيةً وفداءً ،عطاءً وإخلاصًا ،وتفانٍ لرفعته وتقدمه وريادته ،والذود عن حياضه ورموز بكل غالٍ ونفيسٍ وعزيزٍ ،كلُّ ذلك وأكثر حتى نؤكد قائلين :إنّ الانتماء للوطن جوهر الحياة وروحها ،بل هو سرُّ الإنسانية في بناء حضاراتها التي تقوم على التقدّم ،والريادة ،والسلام ،والأمن والأمان ،ولكن هذا الانتماء لا يتأتّى إلّا بالحبّ ،والحبّ لا يتأتّى إلّا بالمعرفة والتنوير ،والمعرفة والتنوير لا يتأتّيان إلّا عن طريق لُغة الوطن/ هُوِيّته/ شخصيّته ذاته/ حقيقته/ وجوده الثقافي في التاريخ والجغرافيا في ساحات المعترك المعرفي الذي يقوده الآخر وحواريوه من بني جلدتنا مِمّن انتصر للآخر ولغته وثقافته ،ونادوا بأنّ حضارته المادية الفقيرة هي التي أغْنَتْ عقولَنا ورؤانا بما أنتجته من نظريات علمية وفكرية ،مارستها تأصيلًا وتطبيقًا ،بينما نحن (أمة اقرأ) لم نعرف شيئًا سوى الإيمان والتسليم ،والطنطنة والتقليد، تعصبًا وانتصارًا لهذا الآخر على ذواتنا ،بدلًا من أن تُجيّش الأمة أبناءها بجميع أنساقها وطوائفها – في تحولات حياتها العامة لتؤكد للقاصي والدنيا أنها تزهو بهويتها / لغتها /وجودها، وتدافع عنها بكل ما تملك ،على مستوى الصراع الحضاري الأممي الذي يعيشه العالم اليوم .
وليعلم أبناء العربية وسدنتها ومبدعوها ،وكذلك مَنْ تجرّؤوا على جلالها وجمالها ؛أنّ الغربَ الذي يريد اليوم احتلالنا بلغته ،وفكره ،وثقافته- كيانٌ مستقل بلغته ،وطرحه الفكري ،وحياته الثقافية الخاصة بمجتمعه ،وعاداته وتقاليده ،وأيدولوجياته ،وهويته ،وأنساقه المجتمعية التي تختلف عن عُروبتنا ،ولو أعمل هؤلاء عقولهم قليلًا حيال هذه الحقيقة ،وأيقظوا نخوتهم العربية لحظةً ،لتبيّنوا هويتهم العربية الأصيلة ،وتمسكوا بمقوماتها الحضارية والفكرية ،ومرتكزاتها الدينية الحقة، وأخلاقياتها الفاضلة ،التي تأمن لهم انفتاحًا على هذا الآخر/ الغرب ،بكل معارفه ،وتحوّلاته الثقافية ،ومنجزاته العلمية ،وطرحه الفكري واللغوي ،في إطارِ (مُثاقفةٍ) عادلة ،تضمن للعربيّ شخصيته وهويّته ،وعطاءاته الإنسانية ،ومن ثمّ إقامة علاقة جدلية في إطار ما يُعرف بالتبادل الثقافي ،والتّلاقح الحضاري بين عَالَمَين مُختلفين في كلّ مظاهر الحياة العامة والخاصة ،بعيدًا عن الانسلاخ ،والاستلاب ،والتبعية لموروث ثقافي أفقد الكثير من أبناء الأمة لهويته ،واستقلال الأمة بعروبتها ،بعد أنْ باتت اليوم تتعامل مع ما يأتينا من الغرب من منظور ثقافة الخواجة المتطور الحضاري ،حتى كُتِبَتْ علينا الغلبة ،وما علينا إلا مبايعة ذلك الغالب والخضوع له، أو محاكاته ،وهو ما رأيناه في كل شيء من حولنا ؛محلات تجارية ترفع اللغة الأجنبية عنوانًا لها ،مؤسسات قومية ؛علمية وثقافية ؛حكومية وأهلية لا تعترف إلّا باللغة الأجنبية التي طمست وجه الأمة العربية الحضاري ،أطفال وشباب الأمة انصرف كثيرًا منهم عن لغة أجداده ،حتّى استعجمت الألسن العربية ،وضاقت أكثر الأراضي العربية باللسان العربي حديثًا ،وحوارًا ،وعملًا ،وقد رأى العَالَم مؤخرًا عجز رموز يُقال عنها وطنية وثقافية – عن قراءة عبارة واحدة في صيغة حلف اليمين بالعربية،!
ويزداد الطين بِلّة أنّ عقلاء الأمة لم يرفضوا الغرب ،ولم يعزفوا عن لغته ،ولكن جريمتهم أمام لئام الأمة ،دعوتهم فقط إلى :اعرف لغتك/ هويتك/ ذاتك ،لا تنصهر في هذا الآخر ،ولا تصل للذوبان أمامه ،ولا تنكره ،بل توقف أمامه محاورًا بكل عزّة وموضوعية وتَفَهُّم ،وتفعيل علاقة الأخذ والعطاء ،لا علاقة التهوين ،أو التهويم ،أو الانكفاء!.
إنّ حماية اللغة العربية ؛لغة الوحيين الشريفين ،بإصدار قوانين رادعة ضد من يتآمر عليها اليوم ،أصبح ضرورة ملحة في حاضرنا الذي استعجم ،وتسللت العجمة إلى منظومة التعليم حتّى تراجع الاهتمام بلغة الضاد ؛لغة القرآن في كثير من مدارس مصر لصالح لغات أجنبية ،بل وصل الأمر إلى انعدامها ،مثلما نرى في العديد من المدارس الدولية ،ومدارس اللغات في مصر العربية ،ذات اللسان العربي ،والهوية العربية ،والتي لم تعد هذه المدارس تهتم باللغة العربية ،مخالفة فقرات القانون الخاصة التي تؤكد أنّ اللغة العربية هي لغة التعليم في مراحله كافة ،وفي جميع فروع المعرفة ،وهي لغة البحث العلمي .
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ ،بل أصبحنا نرى كثيرًا من الشخصيات العامة، وكثيرًا من المسئولين يُدخِلُون بعض اللغات الأخرى في حديثهم باللغة العربية على سبيل الوجاهة الاجتماعية ،وغفل هؤلاء أن على عاتقهم يقع إجلال لغة الضاد/ هويتهم وعزّهم ،والحفاظ عليها ،وعلى قدسيتها وهي لغة القرآن ،وأن يكونوا قدوة أمام الأجيال القادمة ،ويعلموا حقيقة أنّ الأمم التي ترفع راية الانتماء الوطني حقيقةً، إنما تتباهى بلغتها الرسمية على أرض الواقع ،ولم نر دولة متحضرة استبدلت لغتها بلغات أخرى ،أو استعانت بكلمات من لغات أخرى في أحاديثها ،كما نرى اليوم في لافتات محلات شوارع مصرنا الحبيبة ولوحات إعلاناتها، بل وأفنية وفصول مدارسنا الحكومية التي تتذرّع وتتعلّل بمجاراة المدارس الخاصة، وهو تآمرٌ واضحٌ بيّنٌ على العربية ،ترى هذا التآمر عندما تتجوّل في شوارع مصر ومدنها، وقد صُبِغَتْ باللغة الأجنبية ،وكأنك في إحدى البلاد الأوروبية ،علمًا بأن هذه الدول الغربية لا تسمح بوجود لافتة أو كلمة واحدة في شوارعها ،ولو بالخطأ باللغة العربية ، ولم يقف التآمر عند هذا وحسب ،بل تحوّل كثير من أسماء مجتمعنا العربي إلى مسخٍ ممجوج.
وعبثًا يُحاول الغرب وأذنابه من بني جلدتنا عُجمة لسان الأمة ،ومحو هُويّتها وتاريخها ومعتقدها ،لكنه ربّما نسي أو تناسى– جهلًا أو غطرسةً- أنّ هذه الأمة ؛هي أمّةُ (اقرأ) ذات اللسان العربي ،والإشراق البياني الذي أنار وجدان هذا الكون بالنور المبين ،والحكمة وفصل الخطاب ،وحباها اللهُ أن يكون قلبُ بنيها عامرًا بالقرآن والتسبيح والصلوات ،ولا يكون ذلك إلًا بلسان عربيّ مبين ،انتماءِ الأمةِ الوطني في أسمى منازلِه .






























