جاء الإسلام إلى العرب ليعلنوا دولة التسامح والتفاهم فى وجه قبائل الحِقد والقُبح وضيق الأفق. أسّس العرب بالإسلام وطن الرحمة بعد أن فشلت الجاهلية فى تأسيس مثل هذا الوطن. ولو فى حجم بعوضة. أو فى حجم قُرص أسبرين. وعلى بوّابة هذا الوطن رصَّعوا أسماء الله الحسنى. وصلُّوا صلاة الفَجْر تحت أعمدة مساجد رُخامية تسلَّقت عليها التسابيح والأدعية كـنباتات سماوية خضراء .
ما الذى جرى لنا بعد كل هذا العُمر من الإيمان؟ لماذا نشعر بالإفلاس الروحى رغم كل ما ورثناه من ثروات دينية؟ لماذا حافظنا على قِشرة الإسلام الخارجية واحتفظنا تحت جلودنا بأفكار جاهلية؟ لماذا تركنا سيمفونية الماء وعُدنا إلى الجفاف والعطش؟
لقد تفشَّت فى العقود الأخيرة هواية تكفير الناس وسهولة رجْمهم بالشِّرك وفى أضعف الإيمان وصف ما يفعلون بالبدعة. والبدعة ضلالة. والضلالة فى النار. فعلنا ذلك دون أن نتذكّر قول الشاعر: “لا توحش النفس بخوف الظنون. واغنم من الحاضر أمن اليقين. فقد تساوى فى الثَرى راحلٌ غداً وماض من ألوف السنين”.
إن التعريف ينقذنا من هذه الهواية المؤلمة. لو تعارفنا لتآلفنا. التعريف هو التقاء على كلمة سواء. هو أن نبحث فى الشئ عن حكمه. يصعب أن نبحث عن حكم الخمر قبل أن نعرفها. يصعب أن نحكم على شخص بأنه مُشرك قبل أن نعرف معنى الشّرك .
لقد وردت تعاريف كثيرة ومطوّلة ومعقّدة للشّرك. بعضها يتعثّر العلماء أحياناً فى شرحها. وأغلبها ليس للعامة طاقة عليها. فما المانع أن نحاول التوصّل إلى تعريف مبسّط ومُحْكم فى الوقت نفسه؟
الشِّرك هو أن يجعل مع الله غيره فيما لا ينبغى إلا له. إذاً ليس معنى الشّرك أن يجعل مع الله غيره على الإطلاق. فقد يأذن الله لأحد من خلْقه بعمل هو من شأنه سبحانه وتعالى. كأن يأذن لعيسى- عليه السلا-م بإحياء الميّت. ومن ثمّ فمدار الأمر فى التعريف هو جملة “فيما لا ينبغى إلا له”. فما هو الشئ الذى لا ينبغى إلا لله بحيث استأثر به لنفسه ولم يأذن به لأحد من عباده؟
الذى لا ينبغى إلا لله هو “الألوهية”. وللألوهية مقتضيات. بمعنى أنه لو ادّعى أحد الألوهية علينا- كما أمرنا الإسلام- أن نناقشه. تماماً كما ناقش القرآن الكفّار الذين ادّعوا أنهم يمكن أن يأتوا بمثل القرآن. قال لهم سبحانه وتعالى: “فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله”. ومن ثمّ لو ادّعى أحد الألوهية علينا أن نسأله: ما هى علامات أو دلالات ألوهيتك؟
سيقول مثلاً: أنا كريم والله كريم. أنا غنى والله غنى. أنا قوى والله قوى. أنا عالِم والله عالِم. أنا قادر والله قادر. سنقول له: منذ متى وأنت تتمتّع بهذه الصفات؟ سيقول: منذ ولادتى. سنقول له: مبدئياً أنت مولود والله لم يولَد. وبذلك نصل إلى أولى صفات الألوهية وهى “السبْق”. أول مقتضيات الألوهية الذى لا ينبغى لغير الله هو السبْق .
ثم نقول له: هذه الصفات التى ادّعيتها ما حدودها؟ هل حدودها العالم كله بكل كائناته؟ هل كرَمك وعِلمك وقُدرتك وقوّتك تستوعب العالَم ما ظهر منه وما خفى بمخلوقاته الظاهرة والباطنة؟ لا شك سيقول: إن لها حدوداً. سنقول له: إن الصفات الإلهية الخاصة به سبحانه وتعالى لها طبيعة “الإطلاق”. الإطلاق فى الماضى والحاضر والمستقبل. الإطلاق فى الظاهر والباطن .
ثم نسأله: إلى أى مدى تستمر هذه الصفات؟ مائة سنة. ألف سنة. جيلاً واحداً. ثلاثة أجيال. مهما طالت فهى فانية. بينما الصفات الإلهية تتمتع بالسرمدية “الخلود”. عدم الانقطاع .
ويكون سؤالنا الأخير له: من الذى علَّمك لو كنت عالِماً؟ من الذى منحك صفة الكرم لو كنت كريماً؟ سيقول: أبى. شيخى. أستاذى. على الفور سنسأله: ومن علَّم هؤلاء؟ سيقول: الله. سنقول له: إذن عِلمك مستمَد وعلم الله غير مستمَد. أى ذاتى .
وبذلك تكون مقتضيات الألوهية: السبق. الإطلاق. السرمدية. الذاتية. فمن ادّعى لنفسه واحدة منها فقد جعل نفسه شريكاً لله فيما لا ينبغى إلا له. وكذلك من ادّعاها لغيره فهو أيضاً قد أشْرك مع الله غيره .
نعود ونكرّر: الشّرك هو أن يجعل مع الله غيره فيما لا ينبغى إلا له. والذى لا ينبغى إلا له وهى مقتضيات الألوهية. السبق والإطلاق والسرمدية والذاتية. السبق فى القول إن اسمه هو “الأول”. والسرمدية فى القول إن اسمه هو “الآخر”. و”الظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم”.
إذاً لو كان باب الادّعاء مفتوحاً فلا مفرّ من إغلاقه بمناقشة المدّعى فيما ادّعى بأن يقيم البيّنة بنفسه على ما ادّعاه. فتكون الحجّة بالحجّة، يقول سبحانه وتعالى: “وجادلهم بالتى هى أحسن”. وبذلك لو لم ينسب شخص لنفسه صفة من صفات الألوهية فيكون بريئاً من تُهمة الشرك. ولا يجوز أن نرميه بها. يمكن أن نوجّه إليه صفة بديلة وهى الجهل. وفى هذه الحالة علينا أن نزيل عنه هذه الصفة. وهذا هو دور العلماء بما يغلق الباب على هواية رجْم الناس به بسهولة. أما البدعة فقد سبق أن توقّفنا عندها. إنها إطلاق ما قيَّده الله ورسوله أو تقييد ما أطلقه الله ورسوله. وبقى أن نعرّف الكُفر. والكفر له تعاريف كثيرة أيضاً. لكن أسهل تعريف له هو: أن ينسب إلى الله ما تنزّه عنه من الكمّ والكيف والأين والندّ والضدّ والشبيه والمثيل والشريك والزوجة والولد وكل ما خطر ببالك هالِك والله بخلاف ذلك. بتعبير مبسّط: الكفر أن يعتقد الإنسان فى قلبه صورة لله. لكن ما قولنا فى رجل يشهد أن لا إله إلا الله بكل ما تحمل هذه الشهادة من معنى. ويشهد أن سيّدنا محمداً عبده ورسوله. أى أنه واسطة بيننا وبين الله. رجل شهد لله بالألوهية وشهد للنبى بالرسالة. شهد أنه عبد مخلوق لله. يعتقد أن النفع والضُّر بيد الله. رجل مثل هذا لا يمكن أن ننعته بالكُفر. حتى لو سعى إلى الحصول على ما أودعه الله من سّرٍّ وخير فى إنسان أو حيوان أو نبات أو غير ذلك (فالخير بيد الله يضعه حيث يشاء وعلى المؤمن أن يطلبه حيث وضعه الله) يقول سبحانه وتعالى: “وما كان الله ليضيع إيمانكم”.
بقى أن نعرف معنى العبادة. إن المعبود هو المقصود لذاته. وبقى أن نعرف معنى الاتّباع. إننا نتّبع رسول الله ابتغاء مرضاة من أرسله “من يطع الرسول فقد أطاع الله”. فالمؤمن لا يعبد من يتّبع. فالرسول غير معبود. والصالحون والأولياء الذين نتّبعهم غير مقصودين بالعبادة. إن الناس لا نتّبعهم لذواتهم. ولكن بسبب ما أودع الله لديهم من أسرار. على أنه لا عاقل يقول: إننا نتّبع الله. فالمعبود لا يتّبع. والمتِّبع لا يُعبد .
إن جوهر العقيدة كلها معرفة الفرق بين العبادة والاتّباع. أما من يرمى المتّبع بأنه عابد فهذا جاهل بالتعريف والجهل ليس بحجّة. وفى الاتّباع يكون الحب. فلا يمكن أن نتّبع الرسول دون أن يكون محبوباً. لكن الحب شئ والعبادة شئ آخر. قال صلى الله عليه وسلم: “أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبّونى لحبّ الله”. إن الحب هنا ليس لذات الرسول الكريم. ولكن لحب الله. يقول سبحانه وتعالى: “قل إن كنتم تحبون الله (وهو المعبود) فاتّبعونى يحببكم الله”. يعنى أنه للحصول على محبّة الله يجب اتّباع الرسول .
وبقى كذلك أن نعرف ما المقصود بجملة “من دون الله”. إنها تعنى “من غيره”. والمقصود. الأولياء. ولكن ليس على إطلاقهم. لأن هناك أولياء لله هم أولياء الرحمن. وأولياء من دون الله وهم أولياء الشيطان. يقول سبحانه وتعالى: “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. ولسنا الآن بصدد الكلام عن الأولياء. على أن الأولياء من دون الله هم الذين نهى الله المؤمنين عن اتخاذهم وأمرهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء. يقول سبحانه وتعالى: “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين”. إذن النهى هو نهى عن اتخاذ أولياء من دون المؤمنين. وبالتالى يمكن اتخاذ أولياء من المؤمنين .
إذن لو عرفنا ما معنى كلمة عبادة وما المقصود “من دون الله” لاسترحنا من كثير من المغالطات ولأرحنا العامة من تفسيرات مغرِضة ولارتفع مستوى العامة إلى مستوى الخاصة ولاطمأن كل مسلم على دينه وإيمانه. وبالتالي فزيارة الأولياء ليست حراماً. ولا كفْراً كما يروّج البعض بسبب أو آخر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.





























