تتجلّى عبقرية الإسلام فى أنه أرسى الأساس الصحيح للتوحيد؛ فهو ذروة سنام الدين؛ ورأس الأمر كله؛ ففيه جماع العقيدة الإسلامية بكل ما اشتملت عليه من أصول الإيمان، وأنه صاحب العقيدة الحقّة فى اتّصافه جلَّ جلاله بأنه لا يُشارِكه فيها أحد من الخلْق، فهو النموذج الذى ليس كمثله شيء فى الأحديّة والصمديّة؛ لا يشابه المخلوقات فى التوالد والتناسل؛ وليس له ند ولا شريك؛ حتى إن اتصافه بها مجتمعه كما بيّنتها سورة الإخلاص جعلتها تمثّل ثلث القرآن كما يقول جهابذة المفسّرين فى قوله: “قل هو الله أحد؛ الله الصمد؛ لم يلد ولم يولد؛ ولم يكن له كفوا أحد”، وما برهنت عليه من تفرّد الذات الإلهية بكل معانى الأصالة والاستحقاق بالجلال والكمال؛ يدركه المتأمّل فى البلاغ القرآنى؛ فيجد فيه البيان الوافى الكافى للعظَمة الإلهية؛ والمعانى القُدسية ففيه الاستحقاق الإلهى بتفرّده بالاسم الأعظم الذى لا يشاركه فيه أحد، صاحب القيومية بالقيام القادر على شئون الخلائق، فلا تجرى عليه ما يجرى للخلْق والطبع المسيطر عليهم وعلى جِبِلَّة كل إنسان فى النوم والاستكانة إلى الراحة وما يعتريه من الغفلة؛ فهو تعالى: “الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سِنَة ولا نوم” ومن كان هو الموسوم بالإسم الجليل؛ فحقيق على البشرية أن تستجيب للنداء الإلهى الموجَّه إليها بالوحدانية والعبادة فى قوله تعالى: “إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى” (طه)، فما أعظم أن يلبّى الإنسان هذا النداء فيوحِّده ويعبُده بإخلاص وتجرُّد وفقًا للأمر الإلهى فى قوله تعالى: “وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مُخلصين له الدين” (البيّنة).
ولا غرو فهو سبحانه قد جمع المحاسن والمكارم فيما اشتملت عليه الأسماء الحسنى بما جاء فى قوله عزَّ وجلَّ: “الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى” (طه)، كما أنه وحده صاحب الصفات السَنِيَّة وتجلّيات القُدرة الربّانية فى خلْق كل شيء، المتفرّد بالعِلْم الّلدنى المُطْلَق؛ وها هو تعبير القرآن فى محاجّته للمشركين المنكرين لخلْق الله لهم وفى خلْقه للكون بأرضه وتسخيره لبحارها وأنهارها، وخلْقه لسمائها وأفلاكها ومجرّاتها بقوله جلَّ جلاله: “أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون”، وبموجب ذلك: كان التوحيد عدلا وحكمة ورحمة وسلاما وإحسانا، فهو العالم للكون المنظور والغيب المسطور فى اللوح المحفوظ، فكان الخالق من العدم المتّصف بصفات العظَمة المقدّسة، صانع السلام للكون والبَشر؛ وفى المقابل الغالب على الأمر بالعزة والجبروت المُستعلى فوق كل شيء؛ فكيف لهؤلاء أن يكفّوا عن التسبيح للحقّ المطلق؛ ويشركون معه المعبودات التى يدعو إليها الشيطان وأهوائهم الباطلة؛ وحسبها أنها لا تقدر على شيء ولا تستحق أى شيء؛ وهم قد اختاروها لأنها تمكّنهم من إرضاء نزواتهم وإشباع شهواتهم المحرّمة التى تمُجَّها الطبائع السوية والنفوس الزكية؛ فضلا عن أنه وحْده الذى أوجد وأبدع كل شيء ورسم صورها وميّزها وخلَق الإنسان على أكمل مثال وأمر الخلائق جميعا فى كونه الكبير بأن تسبِّحه؛ وأن تلهج بالثناء عليه فهو صاحب العزّة الحكيم فى كل ما خلق وأوجد، على ما عبر عنه بقوله جلَّ جلاله: “الله لا إله إلا هو عالِم الغيب والشهادة؛ هو الرحمن الرحيم. هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارىء المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم” (الحشر).
ويمضى القرآن فى بيان العطاء الإلهى فى تدبير نواميس الكون وجريانها على استقامة ودِقَّة مطلقة تعجز عنها العقول البشرية على ما أودعه الله فى صنعها من فكر وتدبير وإبداع بلغ المنتهى بما يستحيل عليها أن تقدر على إدارة هذا الكون والتحكّم فى سيره ومساره أو تعطيل سنَنه وانتظام أحواله على مدار الأجيال والعصور وما وصل إليه المخترعون من اختراعات جاءوا بها على غرار التفكّر في نواميس الكون والمحاكاة لها، لكنهم أبدا لم يخترقوا هذه النواميس الإلهية أو يغيّروا من عطائها الدائم ولنتأمّل قوله تعالى: “سنَّة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا” (الأحزاب)؛ إذ لم نر على امتداد الزمان أن توقّفت هذه النواميس والسنن؛ أو امتنعت عن أداء ما قدَّره الله من نِعم ليعمر الكون؛ فقد برَّأها الخالق بطلاقة قُدرته؛ وبأمره الكائن لا محالة فورا بلا تأخير بما بيَّنه قوله جلّ فى علاه: ” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ. وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ” (القمر)؛ وهو التحدى الذى عجز أهل الاختراع وأساطين العلم فى الفلك والفضاء أن يغيّروا من هذه النواميس بإنزال أو منع الأمطار أو تغيير طلوع الليل والنهار أو التحكّم فى مسار الشمس والقمر فى مدارها إلى الشرق أوالغرب؛ وهى المعجزة التى تحدى بها إبراهيم أبو الأنبياء- عليه السلام- النمروزَ بما حكاه القرآن بقوله: “إن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبُهت الذى كفر” (البقرة).
من أجل ذلك تواترت دعوة كل الأنبياء على اختلاف شرائعهم ومناهجهم بتبليغ الوحى الإلهى للبَشر بأن الله وحده المستحق للألوهية والعبادة بلا نِدٍّ ولا شريك؛ مصداقًا لقوله سبحانه: “وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون” (الأنبياء)؛ فسبحان من تحلّى بكل تجلّيات العظَمة المطْلقة وانفرد بجلاله بأنه مالِك المُلك والملكوت وربّ كل الملوك؛ وخاب وخسر من أنكر معجزة الله فى الكون.





























