“الأزهر العالمي”: ممارسة جاهلية وجريمة دينية وإنسانية
دار الإفتاء: عادة محرَّمة
د. أشرف الدريني: نموذج للتقصير الاجتماعي والقانوني
د. جمال أبو الفتوح: جريمة مكتملة الأركان
يرصدها: محمد لملوم
لم تكن واقعة ما عُرف “بفتاة البِشْعَة في الإسماعيلية” مجرد مشهد عابر في فضاء السوشيال ميديا، بل تحوّلت إلى نافذة واسعة تكشف حجم التداخل بين التراث الشعبي القديم، وسُلطة الجماعة، وسطوة المشاهدة الرقمية. في دقائق معدودة، أعاد مقطع الفيديو طرح أسئلة خطيرة عن معنى العدالة، وموقع الدين، ودور القانون، وكيف يمكن لعادات بدائية مثل “البِشْعَة” أن تستعيد حضورها في زمن التكنولوجيا والطبّ الشرعي؟!
ورغم أن هذه الممارسة ارتبطت تاريخيًا ببيئات قَبَلية وحدودية، فإن انتشارها عبر المنصات الرقمية أدخلها إلى وعي ملايين الشباب، مُحْدِثة صدمة اجتماعية ودينية دفعت الأزهر ودار الإفتاء وعلماء الاجتماع والقانون إلى التدخّل لحسْم الجدل والتأكيد على حُرمة هذه العادة وخطرها.
ورغم الظهور المتكرّر لمثل هذه العادات في بعض المناطق الحدودية والريفية، يؤكّد علماء الدين أن “البِشْعَة” لا أصل لها في الشرع، بل تُعدّ نوعًا من إيذاء النفس والتعدّي على كرامة الإنسان، كما أنها تستبدل البيّنة الشرعية والقضاء بممارسات لا علاقة لها بالحقيقة أو العدل.
في هذا التحقيق، نعيد قراءة الواقعة من منظور ديني واجتماعي وقانوني، ونفكِّك السؤال الجوهري: لماذا لا تزال الخرافة قادرة على اختراق المجتمع؟ وكيف يمكن أن تتحوّل عادة مؤذية إلى “تريند” يفرض منْطِقَه على الضحيّة والجمهور معًا؟
ممارسة جاهلية
حسَم مركز الأزهر العالمي للفتوى الجدل الدائر حول ما يُعرف بـ”البِشْعَة”، مؤكدًا أنها ممارسة جاهلية لا تمُتَ لمنظومة العدل الإسلامي بصِلة، بل تُعد جريمة دينية وإنسانية. وأوضح البيان أن الإسلام أقام بنيان العدالة على قواعد تحفظ الحقوق وتصون كرامة الإنسان، وأن “البِشْعَة” تقوم على الإكراه والإذلال ولا تعتمد أي دليل أو بيّنة شرعية، ما يجعلها شكلًا من أشكال الكهانة والدّجل.
تعذيب محرّم
وشدّد الأزهر على أن “البِشْعَة” تحمل في جوهرها تعذيبًا بدنيًا ونفسيًا تُجرّمه الشريعة، مستشهدًا بنهي النبي عن التعذيب بالنار والتمثيل بالإنسان. وأكد أن اللجوء لهذه الممارسات يوسّع دائرة الظُّلم ويترك آثارًا اجتماعية مدمّرة على الضحايا، محذّرًا من نشر فيديوهات أو صور تروّج لتلك العادة؛ لما تمثّله من إحياء للخرافة وانتهاكًا لحرمة الإنسان.
عادة محرَّمة
من جانبها، أكدت دار الإفتاء أن “البِشْعَة” لا أصل لها في الشرع، وأن الاعتماد عليها في إثبات البراءة أو الإدانة باطل ومحرّم. وبيّنت الدار أن الشريعة أقامت طُرق التحقيق على البيّنات المعتبَرة لا على التخمينات أو الأساليب المؤذية، مشيرة إلى أن إلزام المتّهم بـ”لَعْق” أداة محماة هو من صور الإضرار بالإنسان التي رفضها الإسلام جُملة وتفصيلًا.
حماية كرامة
أوضحت الإفتاء أن مقاصد الشريعة جاءت لحفظ النفس وصون كرامة الإنسان، وأن “البِشْعَة” تُهدر هذه المقاصد وتُعرّض الإنسان لإذلال جسدي ونفسي يخالف روح العدالة. ودَعت الدار إلى تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة هذه العادة، والتأكيد على أن القضاء الشرعي والقانوني هو السبيل الوحيد للفصل في النزاعات وصيانة الحقوق بعيدًا عن موروثات تُلبس بثوب الحقيقة وهي أبعد ما تكون عنها.
عادات منحرفة
من جانبه أكد د. محمد أحمد مبارك صادق- أستاذ علم الاجتماع المتفرغ بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، فرع تفهنا الأشراف- أن المجتمعات البدائية والتقليدية لا تزال تشهد انتشارًا لبعض العادات السيّئة التي تخالف الشرع والعقل والفِطرة السليمة، ومنها: ضرب المنْدل، وضرب الودَع، وقراءة الكفّ، وقراءة الفنجان، والكهانة، والزَّار، والبِشْعَة وغيرها. مشيرًا إلى أن هذه الطقوس لا أصل لها في الدين، مستشهدًا بحديث النبي: “من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدَّقه بما يقول فقد كفَر بما أُنزل على محمد”. وأوضح أن الجدل المثار حول حادثة “فتاة الإسماعيلية” يجعل من الأجدر الحديث بوجه عام عن خطورة هذه العادات بعيدًا عن تضارب الروايات بين من يصفها بالواقعة الحقيقية ومن يراها مجرد “تريند”.
منهج شرعي
وشدَّد د. صادق، على أن الشرع الحنيف يدعو إلى العِلم والتحقيق والأدلة في إثبات الحقوق والاتهامات، استنادًا إلى حديث النبي: “البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنْكر”. موضحا أن التقدّم العلمي والتكنولوجي في العصر الحديث أتاح وسائل دقيقة لكشف الحقائق والتثبّت منها بشكل حضاري وأخلاقي، بعيدًا عن الخرافات والممارسات المتوارَثة التي لا تمُت للدين ولا للتقاليد الصحيحة بصِلة، مؤكدًا أن العودة للعلم هي الطريق لضبط السلوك الاجتماعي وحماية المجتمع من الوقوع في براثن الدجل.
وبيَّن أن لهذه الطقوس آثارًا بدنية ونفسية واجتماعية ودينية واقتصادية خطيرة؛ فهي من ناحية تُعرّض الضحية للأذى الجسدي، ومن ناحية أخرى قد تدفعها للاكتئاب والانطواء والشعور بالدونية. وعلى المستوى الاجتماعي، تسهم في تفكّك الأُسرة وإشاعة الكراهية بين الأقارب والجيران، كما تُضعف العقيدة وتُورِث الشَّكَّ وتستنزف أموال الضحايا لصالح الدجّالين والمشعوذين. واختتم مطالبًا بدعوة حازمة لأجهزة الأمن والقانون إلى الضرب بيد من حديد على كل من يمارس هذه الأساليب، باعتبارهم “سُبَّة في جبين الحضارة والمدنية”.
حماية الجسد
بدوره يؤكد د. جمال أبو الفتوح- وكيل كلية الحقوق، جامعة دمياط للدراسات العليا والبحوث- أن المواثيق الدولية والدساتير والتشريعات الداخلية أوْلت اهتمامًا بالغًا بحماية الحقّ في السلامة الجسدية، بوصفه أحد الحقوق الأساسية التي تضمن حُرمة جسد الإنسان وعدم المساس به تحت أي ظرف، وتجريم كل فعل ينال من هذه الحُرمة. موضحا أن الدساتير المصرية المتعاقبة أرْست هذا المبدأ بشكل صريح، وكان آخرها دستور 2014 الذي نصّ في المادتين 54 و55 على حماية الجسد من أي اعتداء، مع التأكيد على أن الجرائم المتعلّقة بالسلامة الجسدية لا تسقط بالتقادم، بما يعكس حرص الدولة على صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه المادية والمعنوية.
وشدّد على أن ما يُعرف بـ”البِشْعَة” يُعد فعلًا غير قانوني صريح، لما ينطوي عليه من إيذاء وتعذيب، ويدخل ضمن صور الاعتداء على الكرامة الإنسانية، فضلًا عن مخالفته لأصول المحاكمات الحديثة التي تقوم على وسائل إثبات مشروعة، مثل البيّنة والإقرار واليمين. مشيرا إلى أن قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 وتعديلاته بالقانون رقم 141 لسنة 2021، إلى جانب قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية رقم 25 لسنة 1968، لم يقرّ مثل هذه الأساليب، مؤكّدًا أنها محظورة قانونًا في الإثبات أو نفي التهم.
واختتم د. أبو الفتوح حديثه بالتأكيد على أن “البِشْعَة” تمثّل عادة عُرفية قديمة تقوم على الخرافة واستغلال الجهل، ولا تحظى بأي اعتراف قانوني لمخالفتها للنظام العام، خاصة في ظل وجود تشريعات تنظم وسائل الإثبات في شقّيها المدني والجنائي دون أن ترد من بينها هذه الوسيلة. وأن الشريعة الإسلامية لم تنص على “البِشْعَة” ضمن أدوات الإثبات أو النفي، مطالبًا المشرّع المصري بالتدخّل لوضع نصوص قانونية صريحة تجرّم هذه الممارسات، وتقرّ عقوبات رادعة لكل من يمارسها أو يروّج لها، حمايةً للسلامة الجسدية وصونًا للكرامة الإنسانية.
أوهام قديمة
فى نفس السياق يؤكد د. أشرف نجيب الدريني- أستاذ القانون الجنائي والمحاضر المعتمَد بدائرة القضاء بأبوظبي- أن السؤال الأهم ليس: لماذا يصدّق الإنسان الخرافة؟ بل: كيف نسمح كمجتمع باستمرارها رغم تقدّم العلم والعقل والقانون؟ ويشير إلى أن التسليم لأدوات بدائية مثل “البِشْعَة” أو الحديد المحمِى للكشف عن البراءة لا يعبّر فقط عن جهل، بل عن ضغط ثقافي يفرض نفسه على الضحية ويجعلها خاضعة رغم الألم والخطر. وتظهر هنا مُعضلة المسئولية الجنائية: هل تُحاسَب الضحية لأنها صدّقت؟ أم يُحاسب المجتمع والفاعلون الذين يستغلون الخرافة للابتزاز والإكراه؟ مشدّدًا على أن هذه الأسئلة تكشف جرحًا اجتماعيًا عميقًا يستدعي مراجعة شاملة لدور القانون والمجتمع في مواجهة الوهْم.
خرافة مؤذية
ويستعرض د. الدريني مثال “البِشْعَة” بوصفها نموذجًا لخرافة تُمارَس تحت ستار العُرف، وهي في حقيقتها تجربة تعذيب تُلزم المتّهم بـ”لَعْق” حديد محمى أمام الجمهور بزعم كشف الحقيقة.
ويقول: إن الخرافة تختلف عن السّحر والشعوذة في طبيعتها، لكنها تتقاطع معها حين تتحوّل إلى أداة للإيذاء، وهنا يتدخّل القانون. فالمنفّذ لـ”البِشْعَة” مسئول جنائيًا عن الضرر المباشر، والمحرّض الذي يدفع الضحية للخضوع شريك في الجريمة، أما المستفيد الذي يوظّف الخرافة لتحقيق سُلطة أو ابتزاز فيتحمّل المسئولية كاملة. مؤكدًا أن الضحية لا تُعد مسئولة، لأنها واقعة تحت ضغط اجتماعي يخيفها من العار ورفض الجماعة، بينما يتحمّل المجتمع والإعلام والتعليم والدين جزءًا من المسئولية حين يغيب دورهم في مواجهة الجهل وتحصين الوعي.
منع الخرافة
ويستكمل د. الدريني مؤكدًا أن مواجهة الخرافة ليست مهمة القانون وحده، بل مشروع مجتمع كامل. فالقانون يردع ويحاسب، والتعليم يزرع التفكير النقدي، والإعلام يكشف التضليل ويعرّي الممارسة، والمجتمع يجب أن يوفّر بيئة آمنة تُعلِي من قيمة العقل لا الخوف، بينما يقدّم الدين سياجًا أخلاقيًا يمنع استغلال المقدَّس لتبرير التعذيب أو الدّجل. ويخلُص إلى أن الإنسان يصدّق الخرافة حين يُترك بلا وعي أو حماية، لكن الجُرم الحقيقي يقع على من يستغلّها، ومن يصمت عنها، ومن يروّج لها، ومن يترك القانون بلا تطبيق صارم. ويؤكد أن الحقيقة لا تُكشف بالنار، والبراءة لا تُعرف بالألم، والكرامة الإنسانية فوق كل عُرفٍ قديم؛ فحين يدرك المجتمع ذلك، يلتئم الجرح الاجتماعي وتعود العقلانية لتكون خط الدفاع الأول ضد العودة إلى ظلام الأساطير.





























