د. غانم السعيد: الموازنة بين جمال الصوت والوقار ضرورة
د. اعتماد عبدالصادق: إتقان الأحكام وفِهم المعاني “فَرْض” للقارئ
د. محمد العشماوي: “المقامات” جائزة.. و”الحِجَاز” الأكثر روحانية وخشوعا
تعرضه: مروة غانم
أكد علماء الشريعة الإسلامية، جواز التغنِّي بالقرآن ما لم يخلْ بأحكام التلاوة، وأن المحظور فى التغنّى بالقرآن هو التلحين المخرِج للنصّ القرآنى عن معانيه وأحكامه، واستخدام الألحان الموسيقية التي تحرّك المشاعر، وكذلك الوقوف غير المناسب لخدمة الّلحن بدلا من خدمة المعنى.
وسلَّط العلماء الضوء على أصل المقامات الصوتية والمقصود بها وأنواعها وكيفية توظيفها مع النصّ القرآنى، والمقامات القرآنية، وضوابط التلاوة بإظهار المباح والمحظور منها.
المقصود بالتغنِّى
أشار د. غانم السعيد- العميد السابق لكلية اللغة العربية- إلي أن التغنّى بالقرآن يعنى تحسين الصوت وتجميله أثناء التلاوة بحيث يقرأ القارىء بنَغَمٍ يليق بكلام الله، مع المحافظة على مخارج الحروف، وأحكام التجويد والوقار.
أما “المقامات الموسيقية” فالمقصود بها الألحان الصوتية الطبيعية للإنسان “كالبيات، الحجاز، الرَّسْت” وهى فى أصلها مجرد أنماط للصوت فى صعوده ونزوله، وليست موسيقى أو غناء أو لهو .
مقام حِجَاز
وشدَّد على أن الفيصل فى القراءة بالمقامات هى أن يقرأ القارىء القرآن بنغمة معينة يستريح لها السمْع، سواء كانت هذه النغمة “مقام حِجاز أو بَيَات” أو غير ذلك مادام أنه لا يخرُج بالقرآن عن حدوده .
أوضح أنه يجوز تحسين الصوت بالقرآن، بل هو مندوب لقول النبى- صلي الله عليه وسلم-: “ليس منَّا من لم يتغَن بالقرآن” وقوله: “زيِّنوا القرآن بأصواتكم” وهذا يعنى أن يقرأ القارىء بشكل حسن رخيم مع استعمال طبقات الصوت المختلفة وبنَغَمٍ معين دون تكلُّف ولا تشبُّه بأغانى اللهو.
حُسن الأداء
أشار إلى أن كبار علماء الأزهر كالإمام المراغى، المنوفى، الطنطاوى جوهرى، والعلامة المرصفى أجازوا تحسين الصوت واعتبروه من حُسن الأداء لا من بِدَع التغنّى .
أما المحظور فى تلاوة القرآن، التلحين المخرِج للقرآن عن هيئته مثل: ليّ الحروف والإطالة غير المشروعة وتكسير الكلمات لأجل اللحن، فضلا عن مخالفة أحكام التجويد فهذا ممنوع بإجماع العلماء. كذلك التشبُّه بالغناء الذى يخرِج التلاوة عن الخشوع. وقد حذّر العلماء منه مثل استخدام ألحان الطَرَب التي تخرج المستمع للقرآن عن احترامه وفهمه، مغرِقة إيّاه في الطرب والرقص المفتعل، والوقوف غير المناسب لخدمة “الّلحن” بدلا من خدمة “المعنى” فهذه أمور مبتدَعة ولا يجوز الإتيان بها عند قراءة القرآن، وجعل المقامات غاية لا وسيلة وهذه تتحقق عندما نرى القارىء يسعى لإظهار براعته فى المقامات، أو يقلِّد مطربا، أو ليُطرِب الناس ويبتعد بهم عن الخشوع! وهذا مذموم لأنه يضيّع روح التلاوة.
الوقار والجمال
ويؤكد د. غانم، ضرورة الموازنة بين الجمال والوقار عند قراءة القرآن، وهذا يتحقق بالاستماع الى النماذج الأمثل فى القراءة، كالشيخ محمد رفعت، الشيخ مصطفى اسماعيل، الشيخ المنشاوى، فقد كانوا يقرأون القرآن بلا تكلُّف ولا خروج عن المعنى ولا تشبُّه بالغناء، وكان المقام لديهم خادما للآيات، وهذه هى الوسطية التى ارتضاها العلماء .
فنٌ رفيع
وتؤكد د. اعتماد عبدالصادق- أستاذ أصول اللغة والقراءات، عميدة كلية البنات الإسلامية بالقاهرة سابقا- أن قراءة القرآن بالمقامات فنٌ رفيعٌ يخدم المعنى، وليس غاية فى ذاته، فالمقامات هى ألوان موسيقية تعبّر عن مشاعر مختلفة، وأن القراءة بالمقامات لها منهج علمى تسير عليه ومراحل تمر بها بداية من مرحلة الأساس المتين والتى تعنى فهم المعنى والتجويد. وقبل التفكير فى المقامات لابد من وضع أساس متين للتلاوة، فالجمال الصوتى دون أصل صحيح يهدم أسسها السليمة من إتقان لأحكام التجويد، وهذا فرْض عين على كل قارىء، حيث يجب إتقان أحكام النون الساكنة، التنوين، الميم الساكنة والممدود، والتفخيم والترقيق، وغيرها من أحكام التجويد، فهى تضبط نُطْق الحروف وتضمن وصول الكلمة كما أُنزلت. فضلا عن فهم المعنى والتفسير الإجمالى من القاريء نفسه للآيات القرآنية ويمكنه أن يقرأ تفسيرا مُيسَّرًا قبل التلاوة لتوصيل المعني الصحيح للمتلقّي كـ”الوسيط للطنطاوى، أو التفسير الميسَّر”، ولابد من الإلمام بموضوع الآيات (هل تتحدث عن العقيدة أم التشريع؟ أم هى قصص أم ترغيب وترهيب؟) فكل هذه أمور ضرورية يجب على القارىء معرفتها، كما يجب معرفة المشاعر التى تثيرها وتحرّكها الآيات (هل هى رهبة؟ أم رحمة؟ أم أمل؟ أم خوف؟).
وتشدد على أهمية القراءة بخشوع، لأن القراءة الصحيحة والبطيئة مع التركيز على المعنى وتحريك المشاعر يكون لها دور كبير فى تكوين شحنة روحية ووجدانية داخل القارىء تصل للمستمع بسهولة، كما أنها ستوجُّهه لاحقا فى اختيار المقام المناسب.
خادم للمعنى
توضح أن المرحلة الثانية من القراءة بالمقامات تكون بالربط بين المعنى والمقام، وأساس هذه المرحلة أن يكون المقام خادما للمعنى لا متحكّما فيه، وتعلُّم المقامات الأساسية ومعرفة مدلولاتها العاطفية.
فمقام “الرَّست” من أهم المقامات الموسيقية حيث يعبّر عن الطمأنينة والوقار والإيمان والعظمة ويعتبر مناسب لآيات الخلْق والعَظَمة الإلهية، وأوائل السور المكّيّة مثل “الحمد لله ربّ العالمين”. أما مقام “البيات” فيعبّر عن الحزن والندم والتضرّع واللجوء إلى الله، وهو مناسب لآيات التوبة، والاستغفار ووصف حال العُصاة مثل “ربّنا إننا سمعنا مناديا يُنادى للإيمان”. ويعبّر مقام “السيكا” عن الخشوع والأسى والشوق وهو مناسب للتدبّر فى آيات الآخرة والمواعظ مثل “كل نفس ذائقة الموت”. أما مقام “الحجاز” فهو يعبّر عن الغرابة والخوف وهو مناسب لقصص الأمم السابقة ، وأهوال يوم القيامة مثل “فإذا نُفخ فى الصور نفخة واحدة”. ويعبّر مقام “الصَبَا” عن الألم والحزن العميق والشكوى وهو مناسب لآيات شكوى الأنبياء، والآيات التى تتحدث عن عذاب الكفار. وأخيرا مقام “نهاوند” ويعبّر عن النصح والإرشاد والعبرة، لذا نجده مناسبا للآيات التى تحتوى على حِكم ومواعظ مثل “إن فى خلق السماوات والأرض لآيات لأولي الألباب”.
التلوين المقامى
ولفتت إلى أهمية استخدام مبدأ التلوين المقامى والذى يعني فن الانتقال بسلاسة من مقام إلى آخر، وفقا لتغيّر المعنى، بمعنى عدم استخدام مقام واحد طوال التلاوة لأن المعنى يتغيّر، وبالتالي يجب أن يتغير أداء القاريء الصوتي.
وألقت الضوء على مثال تطبيقى فى سورة “الضُّحى” حيث تم استخدام أكثر من مقام فى آياتها، فقد استخدم مقام الراست أو البيات فى كلمة الضحى، واستخدم مقام السيكا فى قوله تعالى “والليل إذا سجى”، أما قوله تعالى “ما ودَّعك ربّك وما قلى” فتم استخدام مقام البيات للمواساة، واستخدام مقام الرَّست فى قوله تعالى “وللآخرة خيرٌ لك من الأولى” وذلك للتبشير والثقة بالوعد، وفى ختام السورة “ولسوف يعطيك ربك فترضى” يمكن استخدام مقام النهاوند أو الرَّست بنغمة مرتفعة تعبيرا عن تحقيق الوعد .
شعار قارىء
توصى د. اعتماد، القرَّاء بضرورة الاستماع لكبار القرّاء المشاهير بتميّزهم فى توصيل المعنى مثل (المنشاوى، عبدالباسط، الحصرى، سعد الغامدى، محمد أيوب).
ولابد للقاريء من تحليل استخدام المقامات فى توصيل المعنى، هذا بجانب تسجيله لتلاواته والاستماع لها لمعرفة ما إذا كانت مشاعر القراءة هى نفس مشاعر الاستماع أم أن هناك تغييرا يفقد الآية معناها الصحيح؟ وهل المقام يتناسب مع المعنى أم لا؟
أضف الى ذلك أهمية التدريب على الانتقال بين المقامات الأساسية مع عدم المبالَغة فى الزخرفة، والتى تعنى “تحبير الصوت” لأن التحبير الزائد عن الحد الطبيعى يشغل المستمع عن المعنى الى جمال الصوت فقط بدلا من الخشوع والتأمّل، وليكن شعار قارىء القرآن “التبيين لا التطريب”، فالغاية من القرآن أن تقشعر الجلود وتلين القلوب ثم تتحرك هذه القلوب للعمل والطاعة تطبيقا لقوله تعالى “الله نزَّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعِر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله”.
اختلاف العلماء
أما د. محمد ابراهيم العشماوى- أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر- فيشير الى اختلاف العلماء حول قراءة القرآن بالمقامات الصوتية، موضحا أن المقامات هى أنواع الألحان التى يغنّى بها أهل الغناء، أو هى علم أوزان الأصوات، وهى فى باب الغناء كالبحور التى وضعها الفراهيدى فى باب الشعر، وقد وضعها أهل هذا الفن لضبط طُرق الأداء التى يستعملونها، وقد حصر أهل ذلك الفن الألحان بأوزان معينة وسمّوها “مقامات” وهى ليست عِلمًا مخترَعا، بل جُمعت بالتتبّع والاستقراء لألحان الناس، وهو عِلم سابق على القرآن والقراءة به، وهل يمكن للقرّاء أن يقرؤوا بأحد هذه المقامات وهم لا يعرفون عنها شيئا .
مقامات أعجمية
ويؤكد أن أهل التخصص يعرفون أن هذه المقامات الصوتية هى مقامات أعجمية إلا مقام الحِجاز فهو من أصل عربي نُسب الى بلاد الحجاز ويعتبر من أكثر المقامات روحانية وخشوعًا فى القرآن .
أشار إلى اتفاق الفقهاء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، بينما اختلفوا فى القراءة بالمقامات، مستشهدا بما قال الحافظ بن الحجر فى كتابه “فتح البارى”: لا شك أن النفوس تميل الى سماع القراءة بالترنُّم أكثر من ميلها لمن لا يترنَّم، لأن التطريب له أكبر الأثر فى رِقَّة القلب وإجراء الدمع”، كما ذكر ابن حجر. واختلف الفقهاء فى القراءة بالمقامات ما بين التحريم والكراهة وجواز ذلك، فلو اختل الحرف عن مخرجه وتغيّر فقد أجمعوا علي تحريمه.
وفي نفس الوقت أجمع العلماء علي وجوب تحسين الصوت في تلاوة القرآن ما لم يخرُج عن حدّ القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتي زاد حرفا أو أخفاه، كان التحريم، ما ذكر ابن حجر .
أما القراءة بالألحان فقد نصّ الشافعى فى موضع على كراهته، وقال فى موضع آخر “لا بأس”، فقال أصحابه: ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرِّم .
الأحسن صوتا
واستشهد د. العشماوى، ببعض الأحاديث النبوية التى تحثّ على تحسين الصوت عند قراءة القرآن حيث كان النبي أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكذلك كان الأنبياء من قبله، فقد روى البرّاء بن عازب- رضى الله عنه- قال: (سمعت النبى يقرأ فى العشاء بـ”التين والزيتون” فما سمعت أحسن صوتا ولا قراءة منه)، وورَد عن أنس بن مالك قوله ما بعث الله نبيا إلا حَسَن الوجه، حَسن الصوت، وكان نبيّكم أحسنهم وجها، وأحسنهم صوتا”، وورد عن أبي هريرة، أن النبى قال: “ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حَسن الصوت يتغنّى بالقرآن، يجهر به”، كما ورد عن النبي: “من استطاع أن يتغنّى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل”.
واختتم حديثه، بجواز القراءة بالمقامات ما لم تخل بأحكام التلاوة، فإن أخلَّت حرِّمت القراءة بها.





























