التنوير الإسلامى مدرسة وسطية قديمة حديثة، لا تنكِر العقل ولا تتنكَّر للدين، حافظت على تماسك أمّتنا وسط أنواء عاصفة، كانت تجرّها تارة ذات اليمين لتتقوقع على نفسها وتتجمّد، حتى تفنَى وتنقرض معزولة عن الحياة وحركة التاريخ، وتدفعها تارة ذات الشمال لتقطع جذورها وتحرق تراثها وتتخلّى عن روحها وخصوصيتها، حتى تذوب فى الآخر بداعى التحضّر والتقدّم، فتصير ذيلا تابعا لا أكثر.
هذه حقيقة علمية تاريخية ثقافية يدركها كل ذي عقل سوي من المسلمين وغيرهم، أدركها وأثبتها كتَّاب ومفكّرون غربيون اقتربوا بعض خطوات من التراث الإسلامى، وتابعوا قُدرة العقل المسلم على مسايرة التطور الحضاري على مرّ العصور، ومن هؤلاء الصحفي والمؤرّخ البريطاني المتخصص في شئون الشرق الأوسط “كريستوفر دو بلليج” الذي أصدر كتابا مهما في أبريل 2017 بعنوان (التنوير الإسلامى.. الصراع بين الدين والعقل فى العصر الحديث)، وصدرت طبعته العربية عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة.
وبشكل عام فإن الفكرة المحورية لهذا الكتاب توثّق العلاقة بين الإسلام والحداثة، وتردّ على من يتّهمون العقل المسلم بالانغلاق والجمود ورفض التطوّر والتجديد، فيقول دو بلليج: “إن هذه التعميمات الجاهلة والمتعسّفة إنما تكشف عن الأشخاص الذين يقولونها أكثر مما تكشف عن الإسلام، ولا تصمد أمام حقائق التاريخ التى تثبت أن العرب والمسلمين عندما واجهوا مستحدثات الحضارة الأوروبية منذ أكثر من قرنين تعاملوا معها بانفتاح عقلى وتفاعل إيجابى، فأخذوا منها الكثير، وحرّضوا أبناءهم على أن يتعلّموا علومها ونُظمها الإدارية والعسكرية والاجتماعية، واستطاعوا أن يستوعبوا هذه العلوم والنُّظم وتعايشوا معها دون حرج، وفى الوقت ذاته حافظوا على خصوصيتهم الدينية وأحكام شريعتهم”.
فى مقدّمة الكتاب يشير إلى أن العالم الإسلامى كثيرا ما اتُّهم بالفشل فى التحديث والإصلاح ومواكبة العصر، وكثيرا ما قيل إن سبب ذلك يعود إلى الإسلام نفسه، الذى يفرض على عقول أتباعه حالة من الجمود والانغلاق، تحوُل دون تقبّلهم لما هو جديد ومفيد، لأنهم مقيّدون بالثبات على القديم الراسخ المسيطر، لكن واقع الحال يقول العكس، فمنذ بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم عرف المجتمع الإسلامى تحولا حقيقيا فى مسيرته الحضارية، نتيجة احتكاكه وتأثّره بقيم وممارسات معاصرة، مثل تبنّى الطبّ الحديث، وإنهاء إقصاء المرأة، والتطوّر الديمقراطى، في ثلاثة مراكز مهمة سياسيا وثقافيا فى الشرق الأوسط، استدعت الحضارة الغربية وتفاعلت معها واستوعبتها؛ هى مصر وتركيا وإيران.
ويتوقّف دو بلليج عند (اللقاء الأول) للإسلام مع الحداثة عندما شنَّ نابليون بونابرت حملته على مصر عام 1798، وكان من نتائجها أن تعرّف المسلمون على كثير من جوانب الحضارة والعلوم وفنون الإدارة الأوروبية، وشكّل هذا الحدث الدافع الحقيقى للتنوير الإسلامى، الذى يقصد به حركة التجديد والتحديث فى العالم الإسلامى نتيجة التأثّر والاحتكاك والإعجاب بما وصل إليه الغرب من تقدّم فكري وعلمي وحضاري، فقد أحدثت تلك الحملة صدمة ثقافية وفكرية وحضارية أيقظت العالم الإسلامى من مرحلة طويلة من العُزلة والتخلف.
ومع مطلع القرن التاسع عشر بدأ ردّ الفعل الإسلامى على التأثير الأوروبى يتبلور تدريجيا، ويسلّط المؤلّف الضوء على شخصيات إسلامية بارزة، أقدمت لتنهل من علم الأوروبيين وحضارتهم، وتتبنّى جوانب كثيرة من الفكر والتكنولوجيا الغربيين، وتشجِّع الآخرين على ذلك، دون أن تفرّط فى تدينها، وتضم قائمة هذه الشخصيات حكّاما وعلماء دين وكتّابا وأطباء وعسكريين كان لهم تأثير إيجابي كبير في نقل منجزات الحضارة الغربية إلى بلادهم.
ويشير المؤلّف إلى دور الأزهر كمؤسسة تعليمية دينية فى حركة التجديد والإصلاح، ويقدّم نماذج لشخصيات لعبت دورا بارزا فى تحقيق التنوير الإسلامى، مثل جمال الدين الأفغانى ورفاعة الطهطاوى والشيخ حسن العطار وعلي باشا مبارك، حيث تظهر قصصهم أن المسلمين كانوا حريصين على التعلّم والتطوّر، ومدركين أن ذلك لا يتنافى مع الدين، وإنما ينسجم معه تماما.
ويصل “دو بلليج” إلى نتيجة حاسمة، فيرفض ما يروّجه بعض المثقفين الغربيين وينقله عنهم بعض المسلمين ـ للأسف ـ أن الإسلام يخنق تابعيه، إما بسبب تعاليمه الجوهرية، أو بسبب إعطاء الفقه الإسلامى ظهره للعقل، ويقول ردًّا على ذلك: “إن مشاكل العالم الإسلامى تسبَّب فيها أعداؤه الغربيون المستعمِرون، الذين أضرّوا بالوعى الجماعى للمسلمين.” وأكمل الأسبوع القادم.





























