الطبيب المصرى من النخبة المصرية النادرة وعملة نفيسة من أطباء العالم, فلكي يتأهل ليكون أخصائياً ماهراً لابد أن يفني عمره في الطب, فأخصائي أو استشارى جراحة القلب أو المخ أو العظام أو جراحة الأوعية الدموية أو أمراض النساء أو العيون يظل سنوات الجامعة كلها لا يعرف الراحة ولا يتذوقها, وبعد تخرجه يظل أربع سنوات كاملة في المستشفي, لا يعرف أجازة ولا راحة ولا هدوءا, فهو في عمل متواصل وقد لا يذهب إلي بيته إلا عدة ساعات في الأسبوع, أما إذا أضاف إلي ذلك جراحة المناظير فقد يحتاج لأربع سنوات أخرى.
هذه النخبة المصرية النادرة أصبحت مستباحة في كل شيء مالياً وأدبياً “ولولا المراكز والعيادات الخاصة لتسوَّل الأطباء جميعاً على باب السيدة” حسب تعبير البعض, فيضطر وهو في غمرة بحثه العلمي وعمله في المستشفي الجامعي, أن يضحي بنومه وراحته ليعمل في المراكز الخاصة, ليعيش كريماً فقط.
وبعضهم لا يستطيع العيش الكريم إلا بمساعدة والديه لعدة سنوات بعد تخرجه, ولا يستطيع الزواج إلا متأخراً وبمساعدة أسرته, فكل ما يحصل عليه لو تفرغ للعلم والمستشفي الحكومي لا يؤهله للعيش الكريم.
ولك أن تقارن مرتبه وبدلاته بأي وظيفة أخرى من المهن المعروفة, فالفراش والعامل في البترول يتقاضى أكثر من الطبيب, ويستريح نصف الشهر، فمن يصدق أن معاش نقابة الأطباء لا يصل حتى الآن إلي 700 جنيه؟!
ما قابلت طبيباً متميزاً شاباً في وزارة الصحة إلا وأجده يستعد للسفر للخارج, فمنظومة العمل في وزارة الصحة فاشلة, أماكن مبيت الأطباء وطعامهم ومرتباتهم ومنظومة حياتهم كلها لا تلقي اهتماماً, قارن استراحاتهم باستراحات أي فئة مصرية متميزة أخرى!
كل يوم أقابل طبيباً متميزاً يريد السفر نهائياً لكندا أو استراليا أو أوروبا, سنوات طويلة تمر حتى تُخرج مصر طبيباً متميزاً في تخصص نادر, ثم بعد ذلك تفقده الوزارة, إما بأن يأخذ أجازة دون مرتب ويجددها هروباً من الروتين الحكومي القاتل مع ملاليم المرتب, وإما هروباً إلي الخليج أو سفراً نهائياً لكندا واستراليا وغيرهما!
كفاءات بلادنا تصل جاهزة ومدربة هناك, فلا يتكلفون شيئاً, معظم الجراحين في التخصصات المختلفة في معظم المستشفيات حصلوا منذ فترة علي أجازة دون مرتب, يعملون في مراكزهم وعيادتهم ويحصلون علي الدخل الوفير الذي يحلمون به ليسترهم ويحفظ كرامتهم, بدلاً من الإهانات المتكررة في المستشفيات العامة من أهالي المرضي, أو الجرجرة بين الحين والآخر للنيابة مع أي شكوى لأسرة مريض أو الخصومات المتكررة والتحقيقات الإدارية التي لا تنتهي علي أمور غاية في التفاهة والعمل في جو مشحون بالكراهية والنفاق، فأكبر مدير مستشفي يمكن أن يجرجره موظف بسيط في الحكم المحلى لسلسلة تحقيقات متواصلة بأي حجة يراها لو لم يداهنهم ويعاملهم معاملة خاصة وكل شئ مجاناً لهم.. وإلا!
خسارة ألا تجد في المستشفي إلا الأطباء الذين لم يتعلموا الجراحات الدقيقة والكبرى, والباقون في إجازات دون مرتب, فما حاجته لهذا المرتب الهزيل الذي يحصل عليه في يوم واحد!
لك أن تتخيل أن القاضي يحصل علي بدل عدوى رغم أنه لا يصافح المتهم ولا يجلس إلي سريره ولا يفحصه بل يراه من بعيد في القفص، أما الطبيب الذي يعيش ليل نهار مع المرضي لا يحصل علي بدل عدوى رغم الحكم التاريخي الذي أصدره القضاء الإدارى ملزماً الحكومة بصرف بدل عدوى للأطباء فضربت به الحكومة عرض الحائط, هل يعقل هذا, مع أن أطباء كثيرين ماتوا بعد أن تسربت إليهم عدوى الأمراض الخطيرة؟!
تكسير وحدة قسطرة القلب هي الحلقة الأخيرة في مسلسل الاعتداء علي الأطباء والمستشفيات, وهي الإنذار الأخير لتحطيم أحدث الأجهزة بعد أن تحطمت نفوس الأطباء الذين لا يجدون لحظة واحدة لبر آبائهم وأمهاتهم أو إسعاد زوجاتهم وأولادهم أو المشاركة الاجتماعية لمن حولهم في سرائهم وضرائهم, فإلي متي مراهنة الحكومة علي الإهمال في ملف الأطباء؟!
شاب مدمن “أستروكس” لديه جلطة سابقة بالمخ وأصيب بجلطات سدت الشرايين التاجية، حالته كانت حرجة، استقبله معهد القلب وركَّب له ثلاث دعامات مجانا قالوا لأهله قبلها: حالته خطرة جداً، كتبوا إقراراً يفيد بعدم مسئولية المستشفى عن المضاعفات الخطيرة للدعامة في حالته، مات بعدها، فقد أقاربه أعصابهم، حطموا غرفة القسطرة التي تكلفت 20 مليون جنيه جُمعت من تبرعات المحسنين.
لو أن كل مريض مات في غرفة عناية مركزة ثار أهله وحطموا الغرفة التي مات فيها لحُطِّمت كل المراكز وغرف العمليات في مصر!
أجرت ابنتي “نوران” جراحة قلب مفتوح وتوفيت في اليوم التالي بعد جهود كبيرة لإنقاذها، بعدها شكرت الجراحين العظيمين اللذين أجريا الجراحة وهما د. أيمن شعيب ود. خالد سمير، لأنهما بذلا الوسع ومازلت أتواصل معهما حتى اليوم حاملاً لهما الفضل والجميل ومعهما كل من وقف معي في هذه اللحظة العصيبة ومنهم الرائد أحمد كرم- رئيس حرس المستشفي- الذي وجدنى وحيداً مع زوجتى المنهارة وأحتاج إلي إنهاء كل الإجراءات فسهَّل لي معظمها.
المريض المصرى عادة مهمل بطبعه، وأضاف إليه الفقر والجهل وارتفاع كلفة الخدمة الطبية والعلاج أسباباً أخرى للإهمال والطناش, فمريض السكتة الدماغية يظل سنوات يعاني من ارتفاع الضغط وتصلب الشرايين دون أن يكلف نفسه عناء قياس الضغط وضبطه حتى يفاجأ بشلل نصفي أو بالوفاة!
تكسير غرف العمليات أو ضرب الأطباء لا يحدث إلا في مصر، نعم .. الأخطاء الطبية في مصر كثيرة، ولكن هناك حالات حرجة تصل للمستشفيات مثل السكتة الدماغية أو جلطات القلب أو غيبوبة الكبد وعمليات القلب المفتوح تصل متأخرة ونسب الخطورة والوفيات فيها عالية.
تكسير وحدة قسطرة القلب في مركز القلب أعاد للأذهان أياماً عصيبة مرت بها المستشفيات بعد الانفلات الأمني والأخلاقي بعد ثورة 25 يناير، حيث كان يتم الاعتداء يومياً علي الأطباء وطواقم التمريض والعاملين بالمستشفي لأوهي الأسباب من بلطجية أقارب أو جيران المرضى، هؤلاء أمنوا العقاب فأهانوا الطب والأطباء.
فإذا تألم مريض أو شكا لتأخر جراحة هي في الأصل من الجراحات الباردة أو تأخر إجراء تركيب شرائح أو مسامير لمريض أو مات مريض هو في الأصل جاء للمستشفي شبه ميت إذ بهؤلاء ينهالون علي الأطباء ضرباً وشتماً وتحطيماً للمستشفي!
الأطباء
والغريب أن الأطباء الذين ينالون السباب والضرب هم الذين يعملون بإخلاص ولا يريدون ترك المستشفي، أما الذين تركوا واجباتهم ونوبتجياتهم فهم دوماً في أمان وسعة يرغدون في عياداتهم ومراكزهم الخاصة ،مما أدى في النهاية إلي استقالة كل الكفاءات أو أخذهم أجازات بدون مرتب في أهم التخصصات مثل العظام والطوارئ والتخدير والجراحات الدقيقة، وبعضهم مد أجازته ثماني سنوات، وبعضهم سافر للخارج لفشل المنظومة وبهدلته من الجميع!
المستشفيات المركزية الآن عديمة الجدوى ولا تقوم بأي عمل يذكر، وتطفش المرضى إلي المستشفيات الجامعية “وتريح دماغها” بدلاً من إهانة التحقيقات والنيابة أو الضرب علي أيدي أهالي المرضى.
تكسير وحدة قسطرة القلب التي تخدم آلاف الحالات الحرجة الفقيرة مجاناً تعيد للأذهان ما فعله البلطجية وأهالي المرضى في المستشفي الجامعي بالإسكندرية، مما اضطر الأطباء لإغلاق الأقسام وطلب الحماية وتأمين المستشفي.
وهذا يجرنا إلي الكم الهائل من السرقات في المستشفيات الجامعية والتابعة للصحة ،وتبدأ بالنقود والمصوغات الذهبية وتليفوناتهم المحمولة إلي سرقة كل شئ.
تكرار الحوادث
لقد اشترى أهل الخير منذ عدة سنوات تجهيزات كاملة لمستشفي جمال عبدالناصر بالإسكندرية مع شاشة عرض بكل غرفة، فلم يمض شهران حتي سرقت الشاشات ولمبات الكهرباء وأدوات السباكة!
لقد تم بعد ثورة يناير إغلاق أقسام الطوارئ بأكبر مستشفيات القاهرة الكبرى ومنها ،قصر العيني والدمرداش والمطرية وأم المصريين وبولاق الدكرور وأحمد ماهر بعد تكرار حوادث ضرب الأطقم الطبية!
تحطيم وحدة قسطرة القلب يذكرنا بمحاولة سرقة قصر العيني ومستشفي سرطان الأطفال في سنوات مضت، وحصار 200 بلطجي لمستشفي أحمد ماهر بعد معركة حامية في المنطقة بين بائعين جائلين وسائقي الميكروباص مما جعل المرضي في حالة رعب شديد.
لو لم يتم ردع كل من يعتدي علي الأطباء ومساعديهم وعلي الأجهزة الطبية فلن يستمر طبيب متميز ومحترف في العمل في القطاع العام الذي يتحمل أصعب الحالات المرضية، فالقطاع الخاص لا يقبل الحالات الحرجة ويدحرجها للمستشفيات الجامعية، هو يريد الكسب ولا يريد حالات الموت أو الحالات الحرجة.
معاناة
كل التقارير تؤكد أن وزارة الصحة ستعاني خلال عامين من غياب ونقص تخصصات طبية مهمة سافر أطباؤها للخارج أو قدموا أجازات دون مرتب.
إذا أخطأ الطبيب فخطؤه مهني يعاقب عليه بأدوات المهنة، ويعاقب عليه بالقانون وليس بالبلطجة، أين أمن المستشفيات يرحمكم الله ؟!
سيقول البعض: هل الأطباء علي رأسهم ريشة حتى لا يصيبهم ما يصيب غيرهم من الاستباحات الفاشية؟! سأرد بكلمة أستاذى الجميل د. محمد المخزنجي: “نعم علي رأسهم ريشة في زمن صار ريش الطواويس صواري علي رءوس فارغة خاوية، فمهنة الطب لا تترك لمن يمارسونها وقتاً يستريحون فيه مثل خلق الله, مناوبات مستمرة وعاجلة, استدعاءات في منتصف الليل لإنقاذ حياة مريض، دراسة لا تتوقف, مراجعات مستمرة للمعلومات وتدقيق وتحديث لها.
ليست هذه الريشة للتعالي علي خلق الله ولكن لصون كرامتهم وضمان صفاء عقلهم لمواجهة أوجاع وجراحات خلق الله, وأكرر مع أستاذى د. المخزنجى: “كرامة الأطباء أمن قومى لا ينبغي التفريط فيه”.