ها هو شهر الخيرات والنفحات والفيوضات الإلهية قد حلَّ علينا بالخير واليُمن والبركات، وقد كنَّا بالأمس القريب فى وداعه، وكثير من عباد الله كانوا يستعدّون له منذ ستة أشهر مضت، كما كان يفعل السلف الصالح، حيث كانوا يعيشون فى أجواء الشهر الكريم لما بعده بستة أشهر، ثم يستعدّون لرمضان الجديد قبله بستة أشهر، وهكذا كانت أيامهم كلها رمضان، بأخلاقياته وقيمه ورحانياته.
وها نحن اليوم وقد استعدّت مختلف الجهات الرسمية والشعبية، حكومية وخاصة، لهذا الشهر، كلٌّ فى مجال اختصاصه ومسئولياته، حيث العمل على قدم وساق لتوفير السلع الغذائية وأماكن العبادة وممارسة الشعائر فى جو من الروحانيات والسمو الإيمانى، فإن هناك جانبا مهمّا لابد من الاهتمام به والتركيز عليه، ألا وهو الجانب الشخصى لكل منّا، وأعتقد أنه الجانب الأهم فى هذا الشهر الكريم، وهذا ما دعا السلف الصالح للدعاء بقولهم: اللهم سلِّم إلينا رمضان، وسلِّم رمضان لنا، وتسلَّمه منَّا مُتقبَّلا.
فعلى الإنسان منَّا أن يدخل هذا الشهر الكريم بروح وأخلاق مختلفة عن الأيام العادية، أن يخلع رداءه وصفاته وعاداته التى تطبَّع بها وعليها فى حياته اليومية، وأن يصبح إنسانا رمضانيا بكل معنى الكلمة، فى أخلاقه وسلوكياته وتعاملاته، من التسامح والعفو والتخلُّق بأخلاق سيّدنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- الذى وصفه ربُّ العِزَّة جلَّ وعلا بقوله: “وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم” سورة القلم آية 4، فإذا ما صارت هذه الأخلاق الرمضانية عادة وطبعا ترسَّخ فى وجدانه طوال هذا الشهر الكريم، استمر عليها إلى ما شاء الله تعالى له، حتى يلقاه وهو عنه راضٍ، وبهذا يكون رمضان قد أثَّر فينا وحوَّل حياتنا إلى ما هو أفضل وأرقى.
أمَّا أن نكون “مُتَرَمْضِنين” أى ندَّعى أننا على منهج وأخلاق شهر رمضان، ثم سُرعان ما نخلع هذا الرداء الرمضانى الطاهر بمجرَّد انقضاء الشهر فلا فائدة من حرمان أنفسنا من الطعام والملذّات، أو إتعاب أنفسنا بقيام الليل والوقوف فى الصلوات والتهجّد، لأن أول ما تدعونا إليه تلك الأوامر الإلهية أن نُغيَّر سلوكياتنا وتعاملاتنا حتى تليق بنا أولا كـ”بَشَر” وبنى آدم، نحيا حياة الإنسان الكريم الذى فَضَّله خالُقه سبحانه وتعالى عن باقى المخلوقات، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ الإسراء (70).
وثانيا كأتباع لدين الله، أيًّا كان هذا الدين السماوى، فنحن أولى الناس جميعا بأن نكون مُلتزمين بما نؤمن به من قيم ومبادئ دين وكلام الله ربِّ العالمين، ليس لنكون قدوة لغيرنا فقط وإنما لنستحق شرف اتّباعنا وإيماننا بالله تبارك وتعالى.
فلنعقد العزم على الدخول إلى رمضان بروح جديدة، نفتح صفحة إنسانية فى حياتنا، يملؤها الحب والتسامح والأخوة، خالية من الحقد والغلِّ والضغينة تجاه أى شخص أو مخلوق، فهذه هى قيم ومبادئ الأديان السماوية جميعا، بل إنها قيم السلامة والصحة النفسية لمن أراد الأمان والاطمئنان والحياة الهانئة، والسعادة الحقَّة.