كتبت الأسبوع الماضى مُرحِّبًا بقدوم شهر الخير والقرآن والبركات، شهر رمضان المعظَّم، وها هو اليوم وقد مرَّت منه تسعة أيام مُسرعة، وكأنها تُريد الهَرَب والفرار منَّا ولم تُمْهِلنا حتى نستمتع بها ونؤدّى ما نستطيع من طاعات وقُرُبات إلى المولى عزَّ وجلَّ.
وصدق قول المصرى الفصيح حين أفطر أول يوم فى شهر رمضان، فقال مُتَحَسِّرًا: (والله رُحت يا رمضان، فاضل لك عَشَرْتين وتسيعة!) فإن كنَّا نأخذ هذه المقولة على سبيل “النُكتة” والضحكة التى عُرف بها المصرى منذ القدم، إلا أنها الحقيقة مُجسَّدة فى كلمات بسيطة مُعبِّرَة، فما أن يمُرَّ أول يوم إلا وتشعر فعلا أن الشهر يجرى مُسرعا، يوما يجر الآخر خَلْفَه دون أن نشعر به حتى نُفاجَأ بأيامه وقد “تَسَرْسَبَتْ” من بين أيدينا وخرجت من حياتنا، ولا ندرى ما الله فاعل بنا فيها!
فاليوم يمُرّ الثلث الأول من هذا الشهر الكريم، هذا الثُلُث الذى وصفه سيّدنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه ثُلُث الرحمة، ولا نملك إلا أن ندعو المولى عزَّ وجلَّ أن يحتسب هذه الأيام الكريمة المباركة من أيام الرحمة فى حياتنا، فتشملنا رحماته- سبحانه وتعالى- فى الدنيا والآخرة، وأن يوفّقنا فيما بقى لنا من أيام هذا الشهر الفضيل، فيما يحبه ويرضاه.
ولا يبقى لنا إلا أن نُخاطب هذا الضيف الخفيف بأن يترفَّق بنا ويتمَهَّل فى دورانه وألا يُسرع الخطى نحو الغروب، فما أحوجنا لأن يمكث معنا بعض الوقت، ففى هذه الأيام بل الساعات القصيرة التى طاف بها علينا تغيَّرت الكثير من سلوكياتنا إلى الأفضل، وأصبحنا نشعر بالآخرين، نرفق فيما بيننا، ونتراحم ونتعاون ونسعد برؤية بعضنا البعض، وكأننا لأول مرَّة نتقابل! الكثير من مظاهر الأُلْفَة والمحبَّة والرحمة برزت فى تعاملاتنا، وصدق سيّدنا رسول الله، الذى وصف هذا الثُلُث بالرحمة، فما أحوجنا أن يستمر هذا التراحم والرفق فيما بيننا طوال العام وألا يختفى مع غروب آخر يوم رمضانى، وهذا ما يدعونا إليه الشهر الكريم، بألا نكون “رمضانيين” بمعنى ألا نتمثَّل أخلاق رمضان طالما كان فينا وبيننا ثم سرعان ما نتحوَّل بعده فنعود سيرتنا الأولى، وكأننا ما تعلَّمنا ولا عشنا جماليات ولا روحانيات رمضان المعظَّم!
وإن كنتُ أتحسَّر على سُرعة انقضاء هذا الثُلُث الأول، فإننى أدعو الله تعالى ألا يكون الثُلُثان المُتبَقِّيان، المغفرة والعتق من النار، بمثل هذه السرعة والتَفَلُّت من بيننا، وأن يوفّقنا المولى سبحانه فى الاستزادة والتزوّد من طاعته والتقرّب إليه فيهما، والفوز بالجائزة الكبرى فى ختام هذا الماراثون لحصد أكبر قدر من الحسنات والدرجات العُلى، والأوكازيون الإلهى السنوى فى محو الخطايا والذنوب والآثام، واستبدالها الحسنات والدرجات العُلا فى الفردوس الأعلى من الجنان، حتى نخرج من الشهر الكريم، كيوم وُلِدْنا، أنقياء أصفياء مُطَهَّرين من أى ذنب أو سيّئة، راجين عفو الخالق ورضوانه، “مُتَعَشِّمين” فى “الحُسنى وزيادة”.
اللهم كما سلَّمتنا رمضان، فسَلِّمنا فيه، وتَسَلّمه منَّا مُتَقَبَّلا.