ها هى أيام شهر رمضان تسارع بالرحيل، وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرَّط فى الأيام السابقة.
ومن هنا خصَّ الله عزَّ وجلَّ الأمة المحمدية بخصائص كثيرة ومنحها فضائل عظيمة فأعمارها وإن كانت قصيرة إلا أن الله تعالى قد منَّ عليها بأوقات ثمينة، ومواسم جليلة أوقات تضاعف فيها الحسنات ومواسم تغفر فيها الذنوب وتعتق فيها رقاب من النار.
ومن هذه الأوقات، ليلة القدر التى شرفها سبحانه في كتابه العظيم، حيث قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر ِوَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
وسُمِّيَت ليلة القدر بهذا الاسم، لعظيم قدرها وشرفها، ولما أضفاه الله عليها من جموع الفضائل والشرف، وأن الله أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، واختص بها أمة ذات قدر، وفيها تقدر مقادير الخلائق على مدى العام.
ولقد عظَّم الله سبحانه وتعالى شأن ليلة القدر بنزول القرآن فيها، ففى هذه الليلة أنزل المولى سبحانه القرآن الكريم جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر وكان الله عزَّ وجلَّ يُنزل على رسول الله بعضه في أثر بعض قالوا (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، ففيها غفران الذنوب لمن قامها إيمانا بالله مصدقا بثوابها واحتسب في ذلك الأجر عند الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ”مَنْ قَامَ لَيْلَة الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”.
وفى تلك الليلة تضيق الأرض بالملائكة الذين ينزلون فيها بالخير والبركة والرحمة والمغفرة، قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) أي يكثر تنزّل الملائكة فى هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، وعن أبى هريرة- مرفوعا- أن الملائكة تلك الليلة فى الأرض أكثر من عدد الحصى، وهى ليلة سلام كلها خالية من الشر والأذى ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها، قال تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
وعن ميعادها، فهي في العشر الأواخر من شهر رمضان، لقول رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ”تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ”.
والأغلب أن تكون في الليالي الوتر منها، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ”تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ”.
والحكمة في إخفائها، ليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان كلها وخاصة في العشر الأواخر طمعا من العباد في إدراكها، ولاشك أنها إن عُرفت بليلة بعينها لعمَّ الكسل والخمول وترك كثير من الناس الطاعة والاجتهاد، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها، وفي الصحيحين، من حديث عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم ”كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره“، وفعله- صلى الله عليه وسلم- هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه واغتنامه الأوقات والأزمنة الفاضلة.
ويكون الدعاء كما ورد، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني).
إذن هذة الليلة هى فرصة كبيرة ومنحة عظيمة منحنا الله إياها، ويجب أن نسعى للفوز به، فإنها تدعو إلى نبذ الخلاف والمشاحنات والحقد والكراهية والضغينة، فمن لم يجتهد في هذه الليلة فمتى يجتهد؟! ومن لم يدرك الخير في هذه الليلة، فمتى يدركه؟! ومن لم يُغفر له في هذه الأيام، فمتى يُغفر له؟!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ”آمِينَ آمِينَ آمِينَ”. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ آمِينَ آمِينَ، قَالَ: ”إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ”.
هذه أيام شهركم تتقلص ولياليه الشريفة تنقضي شاهدة بما عملتم وحافظة لما أودعتم، فيا غافلا يا لاهيا، يا من قصَّر وفرَّط، ها أنت اليوم في استقبال ليلة القدر فاغتنمها بالأعمال الصالحة، ولله در القائل:
يا أيُّها العَبْدُ قُمْ لِلَّهِ مُجْتَهِدًا.. وَانْهَضْ كَما نَهَضَتْ مِنْ قَبْلِكَ السُّعَدَا
هَذِي لَيالِي الرِّضَا وَافَتْ وَأَنْتَ عَلَى.. فِعْلِ القَبِيحِ مُصِرًّا مَا جَلَوْتَ صَدَا
قُمْ فَاغْتَنِمْ لَيْلَةً تَحْيَا النُّفُوسُ بِهَا.. وَمِثْلُهَا لَمْ يَكُنْ في فَضْلِهَا أَبَدَا
طُوبَى لِمَنْ مَرَّةً فِي العُمْرِ أَدْرَكَهَا.. وَنَالَ مِنْهَا الذي يَبْغِيهِ مُجْتَهِدَا
فَلَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ قَالَ خَالِقُنَا.. مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هَنِيئًا مَنْ لَهَا شَهِدَا فَعَاشَ عِيشَةَ السُّعَدَا