أقسم الله تعالى بالليالى العشر، فقال: “والفجر وليال عشر”، وهى عند البعض العشر الأواخر من شهر رمضان والتى كان يحتفل بها الرسول صلى الله عليه وسلم باعتزال النساء والاعتكاف بالمسجد والتفرغ للصلاة والقيام وتلاوة القرآن، لما لها من فضل ولما عليها من أجر، وحتى لا تفوته أعظم ليلة فى العام كله ليلة القدر، تلك الليلة المباركة التى تنزّل الملائكة والروح فيها من كل أمر وأنزل الله تعالى فيها القرآن الكريم، ووصفها بالليلة المباركة، ورغم أن الرسول قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلا أنه كان حريصا على ثواب الليالي العشر وتلمُّس ليلة القدر، وهى أكثر ليلة حظيت بالعناية الإلهية والذكر لعلو قدرها, ويرجع شرفها بشرف ما أُنزِل فيها من الكلام (القرآن الكريم), وممن أُنزِل عليه الكلام نبينا عليه الصلاة والسلام, ومن شرف وعلو قدر من يتنزلوا فيها كل عام, وهم الملائكة الكرام, والروح الأمين جبريل عليه السلام, ومن عظم ما يقدر فيها من أمر العباد ومما يحصل فيها من تغيير للأقدار بسبب الإقبال على الله بالدعاء فى تلك الليلة واستجابته للقائمين ليلة القدر إيمانا واحتسابا.
والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها، تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره، تنبيهاً على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يُختار لإِيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة وتفضيلها بالخَيْر على ألف شهر، إنما هو بمضاعفة فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام عند الله بما يحصل فيها من الصلاح للناس أفراداً وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين، وقد قال في فضل الناس: {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} ولم يقل أغناكم ولا أقواكم وإنما كان الفضل عند الله للأتقى.
ويحلو للبعض فى كل مناسبة طيبة لفعل الخيرات أن يصرف الناس عنها بإثارة أسئلة تشكك الناس فى فضل الأعمال واختصاصها بوقت محدد، فيدعى البعض أن ليلة القدر كانت هى الليلة التى أنزل فيها القرآن وأنها انتهت وولى زمنها ولم يفطن هؤلاء إلى أن التعبير بالفعل المضارع في قوله: {تنزل الملائكة} مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة.
هذا فضلا عن أن التعريف بالأمان الذى يستمر فيها إلى منتهى فجر هذه الليلة ليحرص الناسُ على كثرة العمل فيها قبل انتهائها. وهذا تعليم للمسلمين أن يَعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نَعم الله عليهم، قال تعالى: {وذكِّرهم بأيام اللَّه} فينبغي أن تعد ليلة القدر عيدا نزول القرآن.
وحكمة إخفاء تعيينها إرادةُ أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة، توخّياً لمصادفة ليلة القدر، كما أخفيت ساعةُ الإِجابة يوم الجمعة.
ومعنى {بإذن ربهم} أن هذا التنزل كرامة أكْرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في تلك الليلة جماعات من ملائكته، وفيهم أشرفهم، وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حِراء.
ويشعر ذلك بكرامة وفضل أمة الإسلام عند ربها فلم يقطع صلته بهم ولا خيراته عنهم بل أنزل للمؤمنين جبريل خير الملائكة كما نزل على رسول الله فى تلك الليلة ينزل على القائمين من المسلمين فى زيارة خاصة، انقطع الوحى عن الأرض بانتقال النبى, ولم ينقطع نزول جبريل، إكراما للمؤمنين المتمسكين بأهداب الدين الصائمين القائمين، بل يأتى جبريل فى كوكبة من الملائكة الكرام.
وفي هذا أصل لإِقامة المواكب لإِحياء ذكرى أيام مجد الإِسلام وفضله، وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي ألا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها.
وذِكر نهايتها بطلوع الفجر للتعريف بمنتهاهَا ليحرص الناسُ على كثرة العمل فيها قبل انتهائها.
وقوله: {سلام هي حتى مطلع الفجر} بيان لمضمون {من كل أمر} لأنّ تنزّل الملائكة يكون أحيانا للخير ويكون أحيانا للشر وأحيانا للخير والشر معا، فمثال تنزل الملائكة للشر كما حدث لعقاب مكذِّبي الرسل فى الأمم السابقة، وتنزلهم الذى جُمع بين إنزالهم للخير والشر كما فى تنزلهم لتثبيت المؤمنين وعقاب الكافرين كما في قوله: {إذ يُوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق}، أما فى ليلة القدر فأخبر أن تنزل الملائكة فيها لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهى سلام أى تنزل من الملائكة بالسلام والتحية على المؤمنين القائمين فى هذه الليلة، كما أنها لهم سلامة لهم تشمل كل خير وسلامة لهم من كل شر وأذى وكل معانى السلام الطيبة السلامُ الغفرانَ وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة، والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر.
ولكن هل يلزم قيام كل الليلة لنحصل على خيرها أم أن قيام القدر اليسير منها بإخلاص لله يؤدى إلى حصول المطلوب منها وتحصيل خيراتها؟ يدلنا على ذلك ويفسره لنا حديث الرسول وشرح صحابته لقوله: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذَنْبه» أي من قام بعضها، فقد قال سعيد بن المسيب: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحَظِّه منها، يريد شهدها في جماعة، فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة.
ولفتح الباب أما المسرفين على أنفسهم جعلها الله تعالى ممتدة حتى مطلع الفجر، فإن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة، لئلا يتوهّم أن نهايتها كنهاية الفِطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر، فلنحرص عليها ولنقم ما بقى من العشر لعل الله يجعلنا من العتقاء ويتقبل منا الدعاء.