ولد الكاتب والأديب والشاعر الكبير مصطفى صادق الرافعى (1880 ــ 1937 ) فى مصر، إلا أن أصل أسرته من طرابلس بلبنان، نشأ نشأة دينية علمية فى كنف أبيه الذى كان رئيسا للمحكمة الشرعية فى طنطا، حفظ شيئا من القرآن وتشرَّب تعاليم الدين والأخلاق وعلم الكثير من أخبار السلف قبل التحاقه بالمدرسة فى سن العاشرة، ولم يحصل فى تعليمه على غير الشهادة الابتدائية، بسبب المرض الذى أصاب أعصابه وأخذ يتطور حتى أفقده السمع وهو فى سن الثلاثين، فانقطع عن دنيا الناس وتفرغ للقراءة والاطلاع وطلب المعرفة، وأصبح الكتاب رفيق حياته.
كان الرافعى يمتلك مواهب ومؤهلات الأديب الكبير، ومن أعماله الأدبية: “رسائل الأحزان”، “السحاب الأحمر”، “أوراق الورد”، “حديث القمر” ، “المساكين” وغيرها كثير، بالإضافة إلى كتابه “تاريخ آداب العرب” وشعره الذى جمعه فى “ديوان الرافعى”، أما كتابه الذى طبقت شهرته الآفاق فهو “وحى القلم”، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء يتميز بأسلوبه الرصين وعبارته المحكمة وفكرته العميقة، وبسببه صار الرافعى يلقب بصاحب الجملة القرآنية، ويضم هذا الكتاب العديد من الأغراض والمقاصد، فيجمع مقالات فى السياسة والإصلاح الاجتماعى والتيار الوطنى والنقد الأدبى وتمجيد المحسنين من شعراء العربية القدامى والمعاصرين والسيرة النبوية والسلوك الإسلامى والإشراقات الإلهية وسحر الطبيعة.
ويمثل كتابه “إعجاز القرآن والبلاغة النبوية” الذى نعرض له هنا الجزء الثانى من كتاب “تاريخ آداب العرب”، حيث يقدم فيه الرافعى نموذجا فذا للبلاغة العربية فى أرقى عهودها الزاهرة، وقد طبع عدة مرات مستقلا ومنفصلا عن مجمل الكتاب الأصلى، والطبعة التى بين يدى الآن صادرة عام 1997.
يبدأ الرافعى فى الجزء الأول من هذا الكتاب بالموضوعات التى تدور حول القرآن الكريم كتاريخ جمعه وتدوينه، وحكمة نزوله متفرقا، وترتيبه ورسمه ورواية القرآن، وغير ذلك من موضوعات قرآنية، ثم يتعرض لقراءاته ومفرداته وتأثيره فى اللغة وآدابها، كما تحدث عن العلوم المستنبطة منه، وناقش آراء القدماء التى تتعلق بإعجاز القرآن مثل الجاحظ والباقلانى والجرجانى مؤسس علم البلاغة، وتحدث أيضا عن أسلوب القرآن ونظمه وإعجاز تأليفه والحروف وأصواتها والكلمات وحروفها والجمل وكلماتها، وغرابة أوضاع التركيب والبلاغة فى القرآن والإعجاز فى البيان والمنطق، ثم يبدأ فى الجزء الثانى من الكتاب بالحديث عن “البلاغة النبوية” وما يندرج تحتها من موضوعات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرافعى من المدرسة التى ترى أن إعجاز القرآن بلاغى فى المقام الأول، ومع ذلك نجده فى الفصل الثانى الذى يتحدث عن “القرآن والعلوم” يتعرض لعلاقة القرآن بنشأة العلوم المختلفة، حيث استلهم المسلمون جميع العلوم التى استحدثوها وبرعوا فيها وأدت إلى نهضتهم فى جميع المجالات، فقد فتح عيونهم على عوالم وعلوم لم يكن لهم بها عهد، إلا بعد أن وجَّههم القرآن إلى النظر فى الآفاق وفى أنفسهم، وبعد أن أمرهم بالقراءة فى أول ما نزل منه، فكانت القراءة فى كتاب الله المسطور (القرآن) هى التى وجَّهتهم إلى القراءة فى كتاب الله المنظور (الكون كله) فكان التقدم الهائل فى جميع المجالات.
يقول الرافعى: “ليس يرتاب عاقل ـ ممن يتدبرون تاريخ العلم الحديث ويستقصون فى أسباب نشأته، ويتشبثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه، وعند الرأى إذا قطعوا به ـ أنه لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليوم غير ما هو عليه الآن فى كل ما يستطيل به، فى تقدمه وانبساط ظل العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفى نموه واستبحار عمرانه، فإنما كان القرآن أصل النهضة الإسلامية، وهذه كانت على التحقيق هى الوسيلة فى استبقاء علوم الأولين وتصفيتها وتهذيبها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتع منها، وأخذه على ذلك بالبحث والنظر والاستدلال والاستنباط، بما كان سببا فى طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك”.
ثم يتطرق إلى ما استخرجه علماؤنا من القرآن الكريم مما يشير إلى مستحدثات الكشف والاختراع، وما يستجلى بعض غوامض العلوم الطبيعية ويشير إلى حقائقها وإن لم يسمها بأسمائها، فقال: “أشار القرآن إلى نشأة العلوم وإلى تمحيصها وغاياتها فى قوله تعالى: “سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد”، ولو جمعت العلوم الإنسانية كلها ما خرجت فى معانيها عن قوله تعالى: “فى الآفاق وفى أنفسهم”، فهذه آفاق، وهذه آفاق أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح فى الأفهام شئ”.
ويعلِّل الرافعى الاهتمام بالآيات الكونية والإشارات العلمية فى القرآن الكريم إلى أنها ستدفع ـ بعد تمحيصها واتصال آثارها الصحيحة ـ بالنفوس الإنسانية إلى غاية واحدة، وهى تحقيق الإسلام، وأنه الحق الذى لا مرية فيه، وأنه فطرة الله التى فطر الناس عليها، وأنه لذلك هو الدين الطبيعى للإنسانية، وسيكون العقل الإنسانى آخر نبى فى الأرض، لأن الذى جاء بالقرآن هو آخر الأنبياء من الناس، إذ جاءهم بهذا الدين الكامل، ولا حاجة بالكمال الإنسانى لغير العقول ينبه إليه بعضه بعضا، ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض.
كل عام وأنتم بخير.