شاء الله سبحانه وتعالي أن أكتب هذا المقال في ساعة متأخرة من ليلة القدر، كانت الدلائل الكونية والأمارات الدينية تؤكد أنها ليلة القدر، ومنها جنح قلمي جنوحا غريبا عما ألفته سابقا من الاهتمام بدنايا الدنيا مهما تعاظمت عند البعض وسفلت عند البعض الآخر، إنتزع قلبي من بين لحمي وجسدي، شاهدته يحلِّق في فضاء السمو، بعد أن نفض عنه دنايا الدنيا وسفاسف الخلق، رحت ألحق بقلبي في الكون العظيم للخالق الأعظم، أرفرف وكأني أسبح خلف كم هائل لا حدود له من الملائكة، نظري تغشاه أجنحة طويلة ناصعة البياض، فرشت هذه الأجنحة فغطَّت الكون كله, حتي ضوء القمر بإلهامه تضاءل في وجود كوكبة الملائكة. ظهرت لي الدنيا بكل ما فيها كأحقر من جناح بعوضة، بدت لي القصور والمنتجعات والحدائق والبساتين كمُكَعَّبات صغيرة يلهو بها طفل لا يتعدي أربع سنوات، وأنا أهيم سابحا خلف كوكبة الملائكة نظرت إلي الأرض فما اقترب إلي بصري شئ يستحق النظر ويلفت بصري الهائم في ملكوت السماوات ولا يشغل نفسي شئ يستحق الاهتمام، يخطف بصري عمود من النور يصل ما بين السماء والارض يتخطى ضياء كوكبة الملائكة صاعدا لشئ لا أعلمه، فإذا ضياء واصل ما بين الكعبة المشرفة والسماوات أعلي, إلتفت بصري لعمد مثله فإذا هو الواصل ما بين السماء والقدس الشريف، لكن نوره يصعد متقطعا يتساقط منه بعض ثناياه وكأنه يحمل بعضا من الحزن، وكأنه يشكو فجورا حوله!! تصدع من الأرض أنوار مختلفة لكنها لم تكن كغيرها فإذا هي ضياء بيوت الله في الأرض, وما حولها ظلام في ظلام يصل الي ظلام دامس، يدعو من يسبح مع الملائكة أن يشفق علي من يعيش في جنح هذا الظلام.
هامت نفسي وامتدت يدي إلي أباريق من فضة لها لمعان لا نعرفه بل ولا ندركه بإدراكنا الدنيوي، تحمل في جوفها رحيقا مختوما مَنْ يرتشفه تهون عليه متع الدنيا كلها، من ذاقه لا يستسيغ أي شراب بعده في الدنيا كلها، امتدت يدي نحو أحد الأباريق اللامعة فلم أستطع، فهي شراب الأبرار ولم أصل بعد إلي درجة الأبرار، وبحق هذا الليلة ذات القدر العالي أن يكتبني ربي من الأبرار وتكون خاتمتي مسك، وأرتشف ولو رشفة من الرحيق المختوم.
مع مطلع الفجر كانت كوكبة الملائكة علي وشك أن تترك أماكنها لتصعد إلي ما لا يدركه بصري، وراحت ظلمة الأرض تبدو أمامي وكأن نفسي تهبط مرة أخري إلي الأرض ليمكنني القدر من مصائبها وبلائها، قبل أن أهبط إلي الأرض كان لساني يبتهل والدموع تنساب من مقلتي (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفو عني).