منذ أيام قليلة ودَّعنا شهر القرآن، لأنه من الحقائق القرآنية الخالدة بشأن شهر رمضان المبارك، أنه شهر القرآن؛ قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
تؤكد كثير من الآيات أن القرآن الكريم يعصم الأمة من كل ضلال وزيغ، وأن القرآن يحقق لهذه الأمة القدر والقيمة والمكانة العالية، وكل ذلك حق وصدق، ولكن متى يكون ذلك؟ القرآن يجيبنا: حين تتبع الأمة هدي القرآن، وتتحقق به تتأتى لها المنزلة العالية والقدر العظيم؛ لأن القرآن أكد في وضوح ودقة أن بركة القرآن لمن يعمل به.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تأخرنا إن كان القرآن يحقق لهذه الأمة القدر والقيمة ويعصمها من كل ضلال وزيغ فما الذي حدث؟ والإجابة جلية واضحة يشهد لها واقعنا وحياتنا ومواقفنا من القرآن، الذي حدث أننا إن كنا موصولين بالقرآن الكريم تلاوة وحفظًا، فإننا والأسف بالغ قد هجرنا القرآن في حقائقه وهداياته التي يكون بها التمكين؛ أليس القرآن قد أمرنا بالعلم من أول آية نزلت (اقرأ)؟! ونحن أقل الأمم قراءة ومعرفة وعلمًا وليس لنا موقع على الخريطة العلمية العالمية، وإنما نحن في موقع الاستهلاك الحضاري، ولسنا شركاء في صنع الحضارة وأصبحنا الوريث الجاهل الذي تنهار به الحضارة، ويكون السبب المباشر وراء كل تخلف وسقوط، والله تعالى ما وعد جهولا برفعة؛ وإنما وعد أهل العلم، قال تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”.
ونتساءل أيضا: أليس القرآن قد أمرنا بالبحث والاكتشاف؛ قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، ولم نفعل فتأخرنا، وفعل غيرنا فتقدم، لقد أراد القرآن للمؤمن أن يكون إنسانًا فوق العالمية، أن يكون إنسانًا كونيًّا، موصولًا بالكون كله، بحثًا واكتشافًا؛ قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ،لقد أمرنا القرآن بالفكر والإبداع واجتهاد العقل؛ حيث اشتمل القرآن الكريم على ألف ومئتين وستين سؤالًا للعقل البشري وجاءت مشتقات كلمات الفكر أكثر من ثماني عشرة مرة ودخلنا حارة الجمود العقلي؛ فتخلفنا وتقدم غيرنا.
من يتأمل القرآن يجده دعوة دائمة للتجديد، فقال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فالأقوم والأفضل والأحسن مطلب قرآني دائم، ولم نفعل فتأخرنا وفعل غيرنا فتقدم علينا، والقرآن دعوة محكمة للأخذ بالأسباب، وسنن الله في الكون وفي الناس {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}.
للأسف أهملنا الأخذ بالأسباب وشاع فينا التواكل فتأخرنا وفعل غيرنا فتقدم، فالقرآن دعوة إلى التخطيط واستشراف المستقبل، قال تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
من يتأمل القرآن الكريم يجده ضد العشوائية والتخبط، قال الله تعالى: {كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}، وقال سبحانه أيضا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ،وقال سبحانه كذلك {مَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، وكشف جوانب أخرى في النظام الإلهي في الكون فقال {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}، وأهملنا وملأت العشوائية حياتنا فتأخرنا وفعل غيرنا فتقدم.
ما أحوجنا أن نحسن فهم وقراءة الحديث النبوي الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين” وكذلك المقولة الشهيرة للفاروق عمر بن الخطاب “نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة بغيره أذلنا الله” ونعوذ بالله أن نكون ممن حذرنا الله تعالي أن نكون منهم “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا”.