لم يكن باستطاعتى أن أنهى سلسلة كتب الدراسات القرآنية وأصحابها التى بدأتها من أول رمضان المبارك دون أن أعرض لكتاب العقاد ” الفلسفة القرآنية ” ، فللأستاذ عباس محمود العقاد منزلة خاصة فى قلبى وعقلى ، ولكتابه هذا ـ على صغر حجمه ـ تأثير مهم فى تكوينى الفكرى وتوجيه بوصلتى فى الحياة .
والعقاد (1889 ـ 1964 ) كاتب موسوعى متعدد الجوانب عميق الفكر ، ثرى الثقافة ، كتب فى الأدب والنقد واللغة والفن والسياسة والفلسفة والعلوم ، وفوق ذلك هو شاعر مجيد ، وقد دعا طه حسين إلى مبايعته أميرا للشعراء بعد شوقى ، وكتب فى الإسلاميات أعمق البحوث والدراسات التى تصل إلى أكثر من خمسين كتابا ، أى ما يربو على نصف مؤلفاته ، بخلاف مئات المقالات المتفرقة فى الصحف والمجلات ،خاصة مجلتى ” الأزهر ” و “منبر الإسلام “.
وقد بدأ اتجاه العقاد إلى الكتابات الإسلامية منذ عام 1940 بكتاب “النازية والأديان ” ، ثم توالت كتبه فى هذا المجال بكتابه الرائع ” عبقرية محمد ” الذى كان باكورة العبقريات الشهيرة التى ضمت ست عبقريات ، وسلسلة الشخصيات الإسلامية الفذة كمعاوية بن أبى سفيان وبلال بن رباح وعمرو بن العاص ، والشخصيات الإسلامية المعاصرة كعبد الرحمن الكواكبى والإمام محمد عبده وغيرهما .
ومن أشهر مؤلفاته الدينية كتب : ” الله ” و” الفلسفة القرآنية ” و ” عقائد المفكرين فى القرن العشرين ” و ” الديمقراطية فى الإسلام ” و ” أبو الأنبياء الخليل إبراهيم ” و ” فاطمة الزهراء والفاطميون ” و ” الإسلام فى القرن العشرين : حاضره ومستقبله ” و” مطلع النور” و” المرأة فى القرآن ” و ” الإنسان فى القرآن ” و ” مايقال عن الإسلام ” و ” الإسلام دعوة عالمية ” و” الإسلام والحضارة الإنسانية ” و ” دين وفن وفلسفة ” , وغيرها .
أما عن كتاب ” الفلسفة القرآنية ” فإن الطبعة التى بين يدى صادرة عن دار الهلال عام 1971 ، وهو كتاب عميق فى أفكاره مفيد فى محتواه ، ويعتبر من أواخر الكتب التى ألفها العقاد وهو فى قمة نضجه الفكرى وعطائه الخصب ، ويمثل خلاصة ما انتهى إليه من آراء فى فلسفة الدين وتعاليمه ، ومرة أخرى أرجو أن تلاحظ الفرق بين نوعية الكتب التى كانت تصدرها المؤسسات الصحفية وتلك التى تصدرها الآن .
احتوى الكتاب على مجموعة من الفصول حول : القرآن والعلم ، والأسباب والخلق والأخلاق فى القرآن والحكومة فى القرآن والمرأة والزواج والميراث والرق والعلاقات الدولية ، والعقوبات فى القرآن ، ومسائل الروح والقدر والفرائض والعبادات والتصوف والحياة الأخرى والإصلاح فى الإسلام .
يؤكد العقاد فى مقدمة الكتاب على أن الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية ، فالدين بالنسبة للإنسان هو البوصلة التى تقرر مكانه فى الكون ، أو فى الحياة ، والعقيدة الإسلامية ليست تغييبا عن الوعى أو عن الحياة ، لكنها حضور فى صميمها ، ولا يبغى تغييبها عن الحياة إلا من يهدف من ذلك إلى استغلال الإنسان ، فقد استوفى العقل والضمير حظهما من سعة القرآن على النهج القويم .
وموضوع الكتاب كما يوضحه المؤلف هو صلاح العقيدة الإسلامية ـ أو الفلسفة القرآنية ـ لحياة الجماعات البشرية ، وأنه قصد من تأليفه تبيان أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية من جملة المباحث التى عالجها الفلاسفة من قديم الزمن ، وأن هذه الفلسفة القرآنية تغنى الجماعة الإسلامية فى باب الاعتقاد ، ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم .
وتحت عنوان ” القرآن والعلم ” يرفض المؤلف الربط أو التوفيق بين بعض آيات القرآن الكريم والمكتشفات العلمية الحديثة ، فالقرآن ثابت والنظريات العلمية متغيرة ومتطورة ، وليس مطلوبا من كتاب العقيدة أن يتضمن نظريات علمية ، ولا يتضمن حكما من الأحكام يحول دون إعمال العقل .
وفى فصل ” الأسباب والخلق ” يتحدث عن أن الخلق كله مرجعه إلى الله ، أو إلى كلمة الله ، الذى جعل للطبيعة سنة تسير عليها وفق نظام محكم ” سنة الله فى الذين خلوا ” ، ” ولن تجد لسنة الله تبديلا ” ، وفى الفصل الخاص بـ ” الحكومة فى القرآن ” يقول العقاد : إذا وصفت الحكومة فى القرآن الكريم بصفة من صفات الحكومة العصرية فهى الحكومة الديمقراطية فى أصلح أوضاعها ، لأنها حكومة الشورى والمساواة ومنع سيطرة الفرد وتسلطه ، وخلاصة القول إن الحكومة القرآنية هى لمصلحة المحكومين ، يطاع الحاكم فيها ما أطاع الله ، وكل أركان حكم الأمة للأمة قائمة فيها.
ويلحق بقواعد الحكم قواعد توزيع الثروة بمأمن عن الإسراف والحرمان ، ” والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ” ، فالمحرومون والعاجزون عن العمل لهم نصيبهم فى الثروة فريضة لا خيارا ، ” خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ” ، والأمر بالزكاة موجه إلى كل مسلم قادر عليه ، ” ..وآتوا الزكاة ” ، وقد حارب عليها الخليفة الأول جموع المرتدين ، وهم أوفر عددا وأكمل عدة من المسلمين .
ولعل أعظم ابتلاء تبتلى به الأمم ونظام حكمها هو ما يكون فى هاتين الآفتين ، أموال مخزونة لا تنفق فى وجوهها وفقراء محرومون لا يفتح لهم باب العمل ولا باب الإحسان ، وكلتا الآفتين ممنوعة متقاة فى حكومة القرآن .
رحم الله أستاذنا العقاد ونفعنا بفكره وعلمه ، وبلغنا اللهم رمضان القادم لنواصل فيه الكتابة عن القرآن وأهله ، وكل عام وأنتم بخير وسلام .