من الإشكالات التي حدثت في مصر إبان حكم الإخوان عدم الإدراك الكامل لما تحمله كلمة فقه الدولة، وافتقارهم لهذا المعنى أوقعهم في كوارث عديدة، لأن من هذا حاله ينظر إلى الدولة على أنها قطاع خاص يملكه ويحق له التصرف فيه كيف يشاء، فمثلا كانت جل المناصب في ذلك الوقت قاصرة على الإخوان وأذنابهم، وفضلا عن ذلك عدم الاعتراف بالآخر، أو برأيه، إذ إنهم لا يؤمنون بالتعددية الفكرية والدينية في المجتمع الواحد، وهذا من شأنه أن يحدث انفصاما في الجبهة الداخلية للمواطنين، وتمييزا بينهم، لأن منهجيتهم قائمة على التبعية المطلقة التي هي مبدأ أصيل في فكر الجماعة، وليست التعددية التي هي استراتيجية الدولة، التي تمنع التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو اللون ونحو ذلك .
يتجلى ذلك أيضا من خلال تطويع الدين لدعم فكر الجماعة وليس لتحقيق مصالح الدولة، فمثلا نجد الفتاوى التي تخرج من بعض شيوخهم تحض على قتل رجال الجيش والشرطة ومن يعارضهم فضلا عن تكفيرهم، لأن هذا ضد فكر الجماعة، فيستبيحون لأنفسهم قتل المخالف لهم في الرأي، أو التوجه، لكن فكر الدولة يقوم على الحفاظ على نفوس جميع المواطنين، مسلمين وغير مسلمين، حتى ولو كان الآخر مخالفا في الرأي، وذلك في ضوء ما تبيحه الدساتير، والاتفاقات الدولية، والتشريعات الوطنية، والأديان السماوية .
ولذلك خرج علينا بعضهم إبان اعتصام رابعة بأن لديهم مائة ألف شاب جاهزين للشهادة- على حد تعبيرهم- من أجل حماية الشرعية المزعومة، ومن أجل مواجهة الدولة، والنيل منها، ومواجهة من يقف معارضا لهم. والسؤال: من يقتل من؟ من يستشهد ضد من؟ وهل هذه شهادة بحق، أم سعي في الإرض بالفساد والإفساد؟ على النحو الذي قاله الحق سبحانه وتعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
من الإشكالات المهمة أيضا أن المنتمين لهذه الجماعات والتيارات يؤمنون بأدبيات هذه الجماعات دون غيرها، ولو تعارضت مبادئ الجماعة مع مبادئ الدولة يقدمون أفكارهم ومبادئهم على مبادئ الدولة، ويطوعون الدين لخدمة هذه الأهداف والمبادئ حتى ولو كانت باطلة، فنجدهم لا يؤمنون مثلا بفكرة حدود الأوطان، ويقللون من أهمية الانتماء إلى الوطن، ويقدمون هذا الفكر الخاص على فقه الدولة التي تقوى بتماسك أبنائها، وانتمائهم إليها، وكلما قوي الانتماء كلما زادت صلابة الوطن في وجه أعدائه.
حتى الشيوخ المنتمين لهذا الفكر نجدهم إبان هذه الفترة أكثر عنفا، دموية، استطالة، استعلاء على غيرهم، تخرج الفتاوى التي تدعم العنف، القتل، التخريب في المنشآت العامة والخاصة، وقتل المسئولين، اغتيال الشخصيات العامة، ولسان حال قائلهم الذي يدفع الشباب إلى ساحات القتال والعنف: “قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار”! كل هذا بهدف تحقيق أهداف الجماعة حتى ولو تعارضت مع فقه الدولة ومصالحها، ومصالح مجموع المواطنين، وهذا يدل على الأثرة المتجذرة في قلوبهم ونفوسهم، فضلا عن النظرية المكيافيلية القائمة على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” بغض النظر عن كون الغاية والوسيلة مشروعتين أو غير مشروعتين، فالمهم هو الوصول إلى الهدف بأي سبيل، وهناك من يدشنون الأدلة لإضفاء المشروعية على كل تصرف أو نهج تختاره الجماعة وشيوخها .
لكن فكرة الدولة أعمق من هذا بكثير لأنها تقوم على تحقيق مصالح جميع المواطنين، وليس بعض الفئات، الدولة تقوم على التعددية وقبول الآخر والتعايش معه في ألق من المواطنة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، في ضوء القوانين الحاكمة والمنظمة لسلوك الأفراد في المجتمع، والتي تحقق مصلحة الوطن والمواطنين، متناغمة في ذلك مع ما تقضي به الأديان السماوية ومنها الدين الإسلامي الحنيف، خلافا لفقه الجماعات الذي يرفض هذه المبادئ، والأفكار، ويرى أن القوانين الوضعية كفر بواح، وحكم بغير ما أنزل الله يستلزم الكفر والظلم والفسق .
والأدهى من ذلك الكذب على الشعوب، وإظهارهم خلاف ما يبطون، إعمالا لمبدأ التقية، فمثلا تجدهم يعلنون عدم خوض الانتخابات الرئاسية، ومبدأ المشاركة لا المغالية في الانتخابات البرلمانية، ثم ما يلبثون أن تتغير مواقفهم ويفعلون خلاف ما يقولون، ثم يحسبون أنفسهم على الدين، ويدشنون الأدلة من القرآن والسنة تبريرا لكذبهم على الشعب!! إن هذا لشئ عجاب .
لأجل ذلك يجب على الدولة أن تأخذ على أيدي كل من يتاجر بالدين، ويستخدمه كوسيلة لتضليل الشباب والتأثير عليهم، والعبث بأفكارهم، وأن تعمل بكل سبيل على استئصال شأفة هذا الفكر المنحرف، وتحصين العقل المصري من الاختطاف، وترسيخ مبادئ فقه الدولة ونبذ فكر الجماعات الإرهابية في شتى مراحل التعليم المختلفة، وكذا وسائل الإعلام من أجل حماية الوطن والمواطنين من كل فكر مشوَّه، من شأنه أن يؤدي إلى نشر الفساد، والإرهاب في المجتمع.