فيما يلي نص كلمة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال احتفال إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان
السيدات والسادة … الحضور الكريم
يطيب لي في مستهل حديثي إليكم اليوم بمناسبة إطلاق الاستراتيجية الوطنية الأولى لحقوق الإنسان أن أرحب بكم جميعاً، سواء كنتم مساهمين في إعداد تلك الاستراتيجية على المستويين الحكومي والمدني، أو من المصريين والضيوف الأجانب الذين يشاركوننا تلك اللحظة المضيئة في تاريخ مصر المعاصر، والتي اعتبرها خطوة جادة على سبيل النهوض بحقوق الإنسان في مصر… أخذاً في الاعتبار ما يحظى به هذا المجال الحيوي من أهمية في تقييم رقي المجتمعات وتقدمها.
وأود في هذا السياق أن أشير إلى أن مصر كانت من أولى الدول التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، حيث لم تتوقف مساهمتها في هذا المجال عند هذا التاريخ بل استمرت وإلى الآن بإيمان عميق واقتناع وطني ذاتي بأهمية اعتماد مقاربة شاملة وجدية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية… وها نحن اليوم، حيث تطلق الحكومة المصرية استراتيجيتها الوطنية الأولى لحقوق الإنسان، والتي تعد نتاجاً لجهود حثيثة بذلتها اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان على مدار أكثر من عام… وأود أن أثمن المنهجية التي تم بها إعداد تلك الاستراتيجية، والتي قامت على نحو تشاركي وتشاوري موسع يستجيب لطموحات وآمال الشعب المصري… كما أتوجه بالشكر إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان وممثلي المجتمع المدني من مختلف المحافظات وأعضاء الهيئة الاستشارية على مساهمتهم البناءة في بلورة تلك الاستراتيجية.
السيدات والسادة،
إن الرؤية المصرية لحقوق الإنسان تستند على عدد من المبادئ الأساسية، أبرزها: أن كافة الحقوق والحريات مترابطة ومتكاملة، وأن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع أهمية تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين حق الفرد والمجتمع، وضرورة مكافحة الفساد لضمان التمتع بالحقوق والحريات… كما أن الالتزام بصون الحقوق والحريات وتعزيز احترامها، يتحقق من خلال التشريعات، والسياسات العام، وكذلك ما تقوم به مختلف المؤسسات والآليات الوطنية من إنفاذ لتلك التشريعات والسياسات.
فعلى صعيد التشريعات والسياسات العامة؛ تستند جهود الدولة إلى المبادئ والالتزامات الدستورية والقانونية. ولقد حقق الدستور نقلة نوعية كبيرة في هذا الخصوص، إذ رسخ مبادئ المواطنة، والعدالة، والمساواة في الحقوق والواجبات دون أي تمييز، وجعل تكافؤ الفرص أساساً لبناء المجتمع… كما يكفل الدستور استقلال السلطة القضائية باعتبارها وسيلة الإنصاف الأساسية التي تضمن الإنفاذ الفعلي لكافة الحقوق.
كما تؤكد الدولة المصرية التزامها باحترام وحماية الحق في السلامة الجسدية، والحرية الشخصية، والممارسة السياسية، وحرية التعبير، والحق في التجمع السلمي، وتكوين الجمعيات الأهلية، والحق في التقاضي؛ فمصر ترحب دوماً بتعدد الآراء بل واختلافها ما دامت تراعى حريات الآخرين وتهدف من خلال نقد بناء وتشاركي إلى تحقيق ما هو أفضل لصالح مصر وشعبها… ولطالما تبنت مصر، وما تزال، حرية الفكر والإبداع والتعبير… مما أثمر عن مساهمة مصرية رائدة في محيطها الإقليمي فناً وأدباً وثقافةً.
كما تمتلك مصر بنية مؤسسية وطنية ثرية، تعمل على تعزيز احترام وحماية حقوق الإنسان، وتخضع للتطوير المستمر… ولقد جاء إنشاء اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان كإضافة هامة من شأنها دعم وتعزيز العمل الوطني المنسق في هذا المجال. وإلى جانبها توجد وحدات وإدارات مختصة بحقوق الإنسان في كافة الوزارات والمحافظات والجهات ذات الصلة. وتضطلع المجالس القومية للمرأة، وللطفولة والأمومة، وللأشخاص ذوي القدرات الخاصة وأصحاب الهمم، بأدوار رائدة في مجال تعزيز حقوق تلك الفئات. كما أن المجلس القومي لحقوق الإنسان، باعتباره المؤسسة الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان وفقاً لصلاحياته في إطار الدستور، فيقوم بدور محوري وفاعل في مجال ترسيخ المبادئ ذات الصلة، ونشر الوعي بها، وضمان التمتع بها.
ويأتي المجتمع المدني كشريك أساسي مهم في عملية تعزيز وحماية حقوق الإنسان بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونشر الوعي بحقوق الإنسان في المجتمع، وتشجيع ثقافة العمل التطوعي والإسهام في جهود مكافحة التطرف والتوجهات المناهضة لقيم مجتمعنا المصري… ومما لا شك فيه أن إسهامات وإنجازات المجتمع المدني واضحة، وشراكته مع الدولة لا غنى عنها… ومن هنا كان توجيهي للحكومة بإعادة النظر في قانون الجمعيات الأهلية السابق، وهو ما أثمر عن إصدار قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي الجديد بما يتضمنه من تيسيرات وضمانات تعزز العمل الأهلي.
وعلى صعيد الحقوق المدنية والسياسية؛ فإننا نولي اهتماماً خاصاً لتعزيز الحق في المشاركة في الحياة السياسية والعامة، باعتبار ذلك مكوناً هاماً للنهوض بجميع مجالات حقوق الإنسان.
ولقد شهدت الحياة السياسية والعامة في مصر نشاطاً مكثفاً خلال الفترة الماضية تكلل بإنجاز كافة الاستحقاقات الدستورية التي كفلت تعبير الشعب عن إرادته الحرة من خلال انتخابات رئاسية ونيابية، واضطلع ممثلو الشعب بمسئولياتهم في التعبير الحر عن رؤيتهم لإنجاز المسيرة الوطنية وتقييم أداء السلطة التنفيذية من خلال دورة برلمانية حافلة بالتفاعلات والانتماءات السياسية، سعياً نحو تحقيق الصالح العام… كما تم استكمال مؤسساتنا التشريعية باستحداث مجلس الشيوخ، وإجراء انتخاباته لكي يقوم بدوره جنباً إلى جنب مع مجلس النواب، وتم إنشاء الهيئة الوطنية للانتخابات ككيان مستقل ودائم يختص دون غيره بإدارة الانتخابات والاستفتاءات في كافة مراحلها بما يضمن نزاهتها ويشجع على المشاركة السياسية … كما تم أيضاً وضع وتحديث العديد من التشريعات التي تضمن للمواطن المصري ممارسة حقوقه السياسية.
أما على مستوى حرية الدين والمعتقد؛ فمصر الدولة ذات التراث الديني الثري… مستمرة في بذل جهودها الحثيثة للتأكيد على قيم المواطنة والتسامح والحوار ومكافحة التحريض على العنف والتمييز… ولقد حققت الدولة المصرية تقدماً مشهوداً له في هذا المجال؛ ضماناً للمساواة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات… وليس أدل على ذلك من إصدار قانون بناء وترميم الكنائس الذي تم بموجبه تقنين أوضاع نحو ألف وثمانمائة كنيسة ومبني تابع لها، كما يتناغم وقوف كل من مسجد “الفتاح العليم” جنباً إلى جنب مع كاتدرائية “ميلاد المسيح” بالعاصمة الإدارية الجديدة كشاهدين على تلك الجهود والإنجازات.
وفيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ترتكز الرؤية التنموية المتكاملة للدولة “مصر ۲۰۳۰” على مفاهيم النمو الشامل والمستدام والمتوازن، بما يتيح التوزيع العادل لفوائد التنمية، وتحقيق أعلى درجات الاندماج المجتمعي لكافة الفئات، وضمان حقوق الأجيال الحالية والقادمة في استخدام الموارد. ويعكس حجم الإنجازات التي حققناها خلال السنوات السبع الماضية من خلال المشروعات القومية الكبرى في كل ربوع مصر، القدرات الوطنية سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ، فضلاً عن حُسن توجيه وإدارة الموارد المتنوعة للوصول إلى أعلى مستويات التنمية، وهو ما انعكس بشكل مباشر على مستوى إنقاذ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خاصة فيما يتعلق بالحق في السكن الملائم، وفي الرعاية الصحية المناسبة، وفي العمل المنتظم، وفي الغذاء الصحي، وفي مياه الشرب النقية والصرف الصحي المتطور، وفي التعليم الجيد.
ولقد اهتمت الدولة بشكل خاص بتدابير الحماية الاجتماعية لدى تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي بهدف تخفيف أثره على محدودي الدخل والفئات الأكثر احتياجاً، وذلك من خلال تبني العديد من السياسات والبرامج والمبادرات، أبرزها مبادرة “تكافل وكرامة”، ومبادرة “حياة كريمة” لتنمية وتطوير قرى الريف المصري الذي يسكنه أكثر من نصف تعداد مصر وغيرها من المبادرات القومية العديدة.
واستطاعت مصر خلال السنوات الماضية أن تخطو خطوات كبرى نحو تحقيق المساواة وتمكين المرأة، حيث حصلت على ۱۲۸ مقعداً من مقاعد مجلس النواب في انتخابات عام ۲۰۲۱ بنسبة تجاوزت ۲۸%، بل أضحت المرأة المصرية قاضية ووزيرة بمجموع ثماني وزيرات في الحكومة الحالية بنسبة تقترب من 25%، فضلاً عن مساواة المرأة بالرجل في الأجر دون تمييز على أساس النوع، ومضت الدولة المصرية في وضع استراتيجية ۲۰۳۰ الخاصة بتمكين المرأة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً… ولم يقف اهتمام الحكومة المصرية عند هذا الحد بل أولي العناية الواجبة لتعزيز حقوق الطفل والأشخاص ذوي القدرات الخاصة وأصحاب الهمم؛ فلدينا إرادة سياسية قوية داعمة لقضايا تلك الفئات الأولى بالرعاية، ولا ندخر جهداً في سبيل تحقيق آمالهم وطموحاتهم.
أما الشباب، فلقد حرصت الدولة على رعايتهم وتنمية قدراتهم وتمكينهم من المشاركة في الحياة العامة وتوفير فرص العمل لهم… وانطلاقاً من أهمية انفتاحهم على الآخر والتعرف على الثقافات المتعددة، فلقد حرصنا على توفير المحافل المناسبة لذلك، ويأتي في القلب منها “منتدى شباب العالم” الذي تحرص مصر على تنظيمه بشكل سنوي، ونأمل في استئنافه قريباً عقب انقضاء جائحة كورونا وما تفرضه من إجراءات احترازية. كما اهتمت الدولة أيضاً بإعداد الكوادر الشابة القادرة على المساهمة في تحمل المسئوليات الوطنية، فجاء إنشاء “الأكاديمية الوطنية لتدريب الشباب” عام ۲۰۱۷ حيث أصبح الشباب يشاركون في صياغة خطط التنمية وتنفيذها، وأضحى بعضهم نواباً للوزراء والمحافظين وممثلين للشعب بالبرلمان.
السيدات والسادة،
يهمني أن أؤكد مجدداً أن تلك الاستراتيجية الوطنية الأولى نابعة من فلسفة مصرية ذاتية تؤمن بأهمية تحقيق التكامل في عملية الارتقاء بالمجتمع، والتي لا يمكن أن تكتمل دون استراتيجية وطنية واضحة لحقوق الإنسان تعني بالتحديات والتعاطي معها، مثلما تراعي مبادئ وقيم المجتمع المصري؛ ومن ثم فقد اهتمت بمختلف محاور حقوق الإنسان من منظور متكامل ومفهوم شامل لتلك الحقوق؛ وإيماناً بأن العبرة تكمن دوماً في التنفيذ؛ فإنني أوجه اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان بمواصلة تنفيذ التكليفات الموكلة لها، كما أكلف الحكومة باتخاذ جميع الخطوات التي من شأنها تعزيز ذلك، وعلى رأسها ما يلي:
أولاً: مواصلة جهود دمج أهداف ومبادئ حقوق الإنسان في السياسات العامة للدولة، وفي إطار تنفيذ “استراتيجية التنمية المستدامة: رؤية مصر ۲۰۳۰”.
ثانياً: دعوة الكيانات السياسية ومنظمات المجتمع المدني للاهتمام بإثراء التجربة السياسية المصرية، وبناء الكوادر المدربة، من خلال توسيع دائرة المشاركة، والتعبير عن الرأي في مناخ من التفاعل الخلاق والحوار الموضوعي.
ثالثاً: ضمان التوزيع العادل لثمار التنمية وحق كل شخص في التمتع بمستوى معيشي ملائم له ولأسرته، بما يوفر لهم ما يفي باحتياجاتهم الأساسية.
رابعاً: تعزيز التواصل مع مختلف مؤسسات المجتمع المدني، وتقديم كل التسهيلات للتنفيذ الفعال لقانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي ولائحته التنفيذية، لإتاحة المناخ الملائم لهم للعمل كشريك أساسي لتحقيق التنمية ونشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع.
خامساً: الحرص لدى تنفيذ الرؤية المتكاملة للإصلاح الإداري على بناء جهاز إداري كفء وفعال يتبع آليات الحكم الرشيد، ويخضع للمساءلة، وينال استحسان المواطنين لمستوى الخدمات المقدمة لهم، ويتسم بالكفاءة والعدالة وعدم التمييز.
سادساً: تطوير منظومة تلقي ومتابعة الشكاوى في مجال حقوق الإنسان للاستجابة السريعة والفعالة لأية شكاوى، والتواصل الفعال مع جهات الاختصاص بشأنها.
سابعاً: تكثيف الجهود الوطنية لبناء القدرات والتدريب في مجال حقوق الإنسان.
ويطيب لي قبل أن أختتم خطابي إليكم أن أعلن عام ۲۰۲۲ عاماً للمجتمع المدني… والذي أدعوه إلى مواصلة العمل بجد واجتهاد جنباً إلى جنب مع مؤسسات الدولة المصرية، لتحقيق التنمية المستدامة في كافة المجالات ونشر الوعي بثقافة حقوق الإنسان، مساهمةً في تحقيق آمال وطموحات الشعب المصري العظيم.
السيدات والسادة .. الحضور الكريم،
تؤكد مصر مجدداً احترامها لجميع التزاماتها التعاهدية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية… فإن ما تنشده هو ضمان تمتع المجتمع المصري بحقوقه كامله، بما يضمن للوطن أمنه واستقراره… الأمر الذي يستلزم بذل مزيد من الجهد الصادق والعمل الدؤوب من أجل تعزيز مسيرة حقوق الإنسان؛ فأبناء مصر يستحقون الأفضل دائماً… وستواصل المؤسسات المصرية الحكومية والمدنية سعيها الوطني تحقيقاً لتلك الغاية… فلم يكن ليفوت مصر وهي على أعتاب تأسيس “جمهورية جديدة” أن تبدأ حقبة مستقبلية في تاريخها الممتد دون إعداد استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، إيماناً بأهميتها في استمرار وتجدد الدولة الوطنية، وكذا تعزيز الجهود المتواصلة لضمان صون كرامة المواطن المصري.